لعلنا نتفق على أن حالة اللايقين التي تسود المشهد السياسي الفلسطيني صارت إحدى سمات ممارسة السياسة الفلسطينية والتي هي لا سياسية بالأساس. من جهة يبدو الصراع محتدماً على خلافة الرئيس محمود عباس، وبدأ يعلو نجم حسين الشيخ في الأفق كخليفة محتمل بينما يخفت حضور أسماء أخرى كان يجري تداولها، باستثناء الحضور المستمر للأسير مروان البرغوثي، الذي يحصنه من كل نقد اعتقاله في السجون الإسرائيلية، وجهود زوجته فدوى البرغوثي النشطة جداً في إبقاء قضيته حية رغم كل التضييقات. ومن جهة ثانية، يبدو وكأن منصب رئيس الوزراء ما زال جاذباً للكثير من الطامحين فيه ولم يفقد بريقه في أعينهم. وهو ما يدلل على أن أي رئيس وزراء مقبل لن يكون إلا أقل ذكاء من كل رؤساء الوزراء السابقين إذا ما قبل تكليفه في ظل كل المعضلات السياسية والمالية التي تمر بها السلطة الفلسطينية.
في مشهدٍ آخر، يعود الفشل في حوارات إنهاء الانقسام في العلمين ليضيف فشلاً إلى الفشل المزمن الذي تعاني منه الحركة الوطنية الفلسطينية، التي بفصائلها المنضوية تحت منظمة التحرير إنما هي في حالة موت سريري، بينما تستفرد حركة حماس بإدارة قطاع غزة، وتعامل مواطنيه كأنهم زمرة من المدسوسين كما في العديد من مقاطع الفيديو التي شاهدناها مؤخراً. في حين تحاول الجهاد الإسلامي أن تبقي عقلية المقاومة حية، بعدما تنازل عنها حملة شعارات المقاومة، وتصارع جاهدة وكأنها تسبح ضد تيار تطبيعي جارف يجتاح المنطقة ويطلق دخانه الأبيض معلناً عن قرب موعد إعلان التطبيع السعودي الإسرائيلي.
في المقابل، هنالك من يمارس السياسة الحقة؛ يستشهد، أو يُعتقل، أو يخرج في مواجهات عند نقاط التماس، أو يكتب كلمة حرة. لتظل هذه الممارسة ترفع علامة سؤال كبيرة فوق المشهدية اللامعقولة للحالة الفلسطينية، ولترسم سهماً باتجاه الطريق الذي يجب أن يسير فيه الفلسطيني. يوصف هؤلاء في الأحاديث الخاصة لدى زمرة مدعيي الوطنية والعقلانية والواقعية السياسية بأنهم "مجانين"، وفق مقاربة تطرح دائماً سؤال الجدوى كسؤالٍ مغلوط يوجه الإجابة نحو عبثية النتيجة في ظل واقع توازن القوى الحالي بين الفلسطيني وعدوه.
وعادةً ما يراد لصفة الجنون أن تكون صفة سالبةً لإنسانية الإنسان، لجعله في مرتبة دونية، محتقراً، أو مثيراً للشفقة، أو خطراً يجدر حجزه أو حبسه لأنه إنسان فاقد لأهلية إنسانيته بزوال عقله وعقلانيته. هكذا يمكن فهم محاولات الأجهزة الأمنية الفلسطينية اعتقال الناشطين أو المقاومين الفلسطينيين أو حتى الصحفيين والمثقفين بذريعة "بدنا نحميهم من حالهم". فهم مجانين بدرجات متفاوتة، يجب أن يردوا إلى جادة صوابهم، دون أن يُطرح سؤال لماذا يجن جنونهم؟
في مشهدية مجنونة بالأساس، يُصبحُ الجنون هو القاعدة وما عداه يصير وهْما وهَمَّا. يفقد الفلسطيني صوابه لأنه يرزح تحت استعمار بغيض، ويخضع لسلطتين تديران شؤونه دون أن تديرانها، بل تفرضان عليه وهم إدارتها، ووهما بأنه بأفضل حال. عندها يتناقض الواقع بتعريفاته مع المنطق السليم، فيأتي الجنون ليكون جنوناً خلاصياً، وليُدير كلٌ جنونَه بحسب مقدرته ومؤهلاته. ففي واقع مجنون وغير سوي، يبدو الجنون الموصوف هنا جنوناً سوياً، بل يصبح أحكم التصرفات، لأنه يصبح وسيلة لإدارة واقع يُسبب الجنون، ويختفي فيه ذلك الحد الفاصل ما بين كل ما هو معقول وما هو لا معقول. وليصبح الفلسطيني السوي هو الفلسطيني المجنون، هكذا عرفه غسان كنفاني في يومياته التي كتبها بين 1959-1962، فـ "مطلق الإنسان في الجنون والضعة والنبل معا، وأن الفرق بين إنسان وآخر هو الفرق بين الكمية التي يحملها من تلك الصفات." يرتبطُ الجنون بالنبل، تلك الصفة المخفية والمخيفة، التي لا يريد أن يراها حائز السلطة ولا يريد لنا أن نفهمها، لأن في الجنون مقداراً من الجمال غير المدرك، الذي يضفي البراءة والنقاء، لأن الجنون لا يُصبحُ خطيئة أو إثماً إلا في عرف المتسلط، وهنا يكمن معامل قوة الجنون أن ما فيه من الجرم أو من الذنب شيء، فيصبحُ الجنون صواباً مطلقاً.
والصواب أو الحقيقة تصيرُ مسعى، ووعياً، فمن لم يكن مجنوناً يريدُ أن يصبح مجنوناً ويقتنع أن الجنون بحد ذاته موقف كامن أو طاقة ساكنة قد تتفجر في لحظة معينة تشبه تلك اللحظة التي تفجرت عند "درويش عز الدين" بطل مسرحية مصطفى الحلاج "الدراويش يبحثون عن الحقيقة"، الذي يتوصل في لحظة فاصلة عند محاكمته، رغم أنه ليس بالشخص المطلوب من السلطات، بأن يأخذ قراراً جنونياً واعياً ويعترف، ليس تحت وطأة التعذيب والمهانة، وإنما تحت وطأة التحول من اللاموقف إلى الموقف بحثاً عن الحرية. يقرر "درويش" أن يعلن أنه "درويش" الحقيقي المطلوب للسلطات، وأنه زعيم التنظيم المعارض، ويقرر أن يفتدي درويش الحقيقي، الذي أصبح في نظره بطلاً شريفاً يستحق الفداء والتضحية. وهو بذلك يمنحه فرصة حياةٍ إضافية بعد أن تتوقف السلطات عن البحث عنه فيستمر الدرويش الحقيقي في مقاومته للاستبداد والظلم، وليحقق الحرية يوما ما.
الجنون فعلٌ واعٍ في حالات كثيرة، منها حالةُ الفلسطيني التي يعيشها، إذ يصبح ضربا من الكرامة، لأنه مفعم بالحب والانتماء لهذا المكان، فيظل الجنون في أعمق سراديبه متضمناً لعاطفة صافية، زاهدة، تختلف شدتها باختلاف المجانين وطبائعهم، ودرجة وعيهم.
فإذا كان تعريف الجنون هو في حب فلسطين فنحن المجانين، ويا أهلاً بالمجانين وبجنونهم.