د. محمد أبو الرب
أستاذ الإعلام في جامعة بيرزيت
هل سبق وأن عاتبك صديق لأنك لم تضع “ لايك” على صورة أو منشور له على الفيس بوك وبناء عليه بدأ يتجاهل وضع علامات الإعجاب أو التعليق على منشوراتك، وبرغم ذلك يحاول اصطناع الود أمامك؟ هل واجهت عكس ذلك مع صديق غير مقرب تتبادل معه “اللايك”، لكنه يتجاهل إلقاء التحية عليك في الشارع مثلا؟ ألم يصبح الضغط على زر “لايك” أشبه بعملية مقايضة، أي اضغط “لايك” على منشوراتي لأبادلك الإعجاب؟
الفلسفة التي تقوم عليها مواقع التواصل الاجتماعي هي أشبه بمحاولة تعويضيه لمن يواجهون مصاعباً وظروفاً تمنعهم من لقاء الأصدقاء ومتابعة أخبارهم، لكن ما يحدث في المجتمعات المحافظة هو أنها تعاني أصلا من فائص في التواصل الحي، لذلك فإن التواصل الافتراضي هو بمثابة فائض الفائض، وهذا هو السر في شعورنا بتراجع العلاقات الحميمية بين الأصدقاء أنفسهم، طالما أن كل شيء مكشوف على “الفيس بوك” وربما بأدق التفاصيل، الأمر الذي يعني زوال التشوق للقاء الأصدقاء.
المغزى من تصميم مواقع التواصل الاجتماعي من مسماها هو التواصل، لذلك فإن الكم الهائل من المعلومات التي نتلقاها يوميا وفي موضوعات شخصية تعبيرا عن مشاعرنا وهواجسنا تجعل من احتمالية طرح موضوعات جدلية فكرية بحاجة إلى تأمل وتفكير أمرا صعبا بل وغير محبب، من هنا فإن الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي يقود إلى برمجة أدمغتنا على تناقل الأخبار والهواجس، ومع التكرار والتعود اليومي، تصبح أدمغتنا وبشكل لا واع وكأنها في حالة عداء مع عالم الأفكار والموضوعات.
منطق التواصل الافتراضي يجعل من علاقاتنا الاجتماعية مجرد “لايك” أو تعليق لا أكثر، وهذه السطحية هي ذاتها التي تشجعنا على أن يكون لدينا “أصدقاء” على الفيس بوك دون أن نعرفهم بشكل شخصي ومنهم من لم نلتق بهم أصلا. صفحات الفيس بوك هي أكبر مصنع لتفريخ العلاقات العامة الزائفة، كيف؟ قاعدة العلاقات العامة تقوم على فن تقديم مؤسستك أو شخصك للجمهور بأفضل صورة ممكنه، وهذا هو بالضبط منطق اشتغال العلاقات “الفيسبوكية”. يقول الصحفي شاين هيبز: “الفيسبوك هو وسيلة تقوم على تركيز الجزء الأكبر من انتباهنا على أنفسنا، فيما تظهر بأنها تركز الانتباه على علاقاتنا مع الآخرين. إنه مرآة تتنكر على أن تكون نافذة”.
الحقيقة المرة التي نعايشها اليوم أن “شيزوفرينا اللايك” أصبحت بمثابة بزنس لدى شركات الدعاية والإعلان ليس فقط لاستقطاب مزيد من المعجبين بمنتجات أو خدمات، لقد وصل الأمر لدرجة أن يجوب مندوبو شركات دعاية وإعلان مكاتب سياسيين لتشجيعهم على تأسيس صفحة فيسبوكية وبيعهم آلاف المعجبين الوهميين لمنافسة شخصيات سياسية أخرى، على اعتبار أن عدد المعجبين على الصفحة مؤشر على حجم الجماهرية والتأييد الشعبي، وأنها تؤخذ بالحسبان في حال الترشح لانتخابات قادمة أو لشغر مناصب عليا.
بالإمكان أن نتخيل اختلاف مراهقيت على وضع أو تجاهل وضع علامة أعجبني على نص أو صورة منشورة على الفيسبوك، لكن أن يصل الأمر بسياسيين ومثقفين إلى حد المعاتبة للسبب عينه، فهذا قمة القبح.
إن رسم خريطة تشخيصية للأبعاد السيسيولوجية والسيكولوجية لتعاطينا مع شبكات التواصل الاجتماعي بحاجة إلى أكثر من مقال ودراسة علمية، لكن السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا هو كيف لنا أن نتخلص من الإدمان الفيسبوكي؟ الإجابة ليست سهلة، فالمعاجلة تختلف من شخص لآخر ومن ثقافة لأخرى؛ في المجتمعات التي تحترم حق الخصوصية واستقلالية الفرد، من الطبيعي أن يكون الإدمان الإلكتروني فيها أقل خطورة مما هو عليه الحال في مجتمعات تقليدية تعلي من شأن المراقبة والعقاب بمنطق” ميشيل فوكو”، هذه المجتمعات يقتلها التشويق لمعرفة ما خلف الجدران، ويتعاظم هذا التشويق بعد أن أصبح متاحا وبيسر أكبر من خلال التسلسل إلى صفحات الأصدقاء ومتابعة هواجسهم وتدويناتهم ليقوم المتسلل بنسج علاقات وقصص وأحكام قيمية. إذا قلنا بأن المعالجة يجب أن تبدأ من الواقع الفعلي لا الواقع الافتراضي، فهنالك خشيه حقيقية بأن يكون قد فات الأوان على ذلك، أي أن نكون قد فقدنا السيطرة يوما بعد يوم على حضورنا الفعلي لصالح الافتراضي. وإذا قلنا بأن المعالجة تكون من خلال الفرد نفسه بأن يضبط حضورة وتفاعله الافتراضي، فهنالك خشية من عدم استجابة الذين لا حظوة لهم في الواقع ولا متسع لمشاركاتهم وتأثيرهم، لذلك أمست صفحات التواصل الاجتماعي الفضاء البديل. تلقائيا سيثار هنا التساؤل على من تقع مسؤولية التشخيص أعلاه: على الأسرة التي لم تساهم ببناء شخصية متينة لأبنائها! على المجتمع ونظام المراقبة والعقاب الجمعي! على الفرد الذي يستجيب للمنبهات الخارجية دون محاكمتها عقليا ونفعيا! أم على التكنولوجيا التي وبدلا من أن تزيد من اقترابنا جغرافيا تغربنا أكثر عن أنفسنا والآخرين! ربما الإجابة هي كل ما سبق وأكثر.