هل ستندلع الحرب بين "إسرائيل" و"حزب الله" ثم تمتد لتشمل جبهات أخرى في غزة والضفة الغربية وسوريا؟ الحديث عن هذه الحرب بات زاداً يومياً لمسؤولي "حزب الله" ومادة لتصريحات المسؤولين الإسرائيليين.
والأمر لا يقف عند حدود الخطابات، فالاستعدادات الإسرائيلية للحرب لم تتوقف وازدادت وتيرتها، وفي المقابل يعزز "حزب الله" مواقعه وحضوره على طول الحدود اللبنانية الجنوبية وتعلو نبرة قادته إنذاراً باقتحام إسرائيل في معزل عن "مهمة" الحزب المعلنة التي وضعها لنفسه وفرضها على برامج الحكومات اللبنانية المتتالية، وهي تقتصر "رسمياً" على حماية لبنان والدفاع عنه في مواجهة احتمال الغزو الإسرائيلي ولا تتعلق البتّة باختراق الجليل وتحرير فلسطين.
منذ أعوام طويلة ينمو مناخ التصادم بين الحزب وإسرائيل على خلفية التوتر بينها وبين إيران من دون الوصول إلى حروب واسعة. كانت إسرائيل تعرف وتراقب استعدادات "حزب الله" تسليحاً وتدريباً وحركة بين لبنان وسوريا ودول أخرى، وبقيت الحدود الجنوبية اللبنانية منضبطة بنسبة كبيرة منذ نهاية صيف 2006، فلم تشهد حوادث كبرى على رغم الخطابات الحربية.
واصل الحزب في الأثناء ترتيب أوضاعه وبسط نفوذه في دولة تآكلت مؤسساتها أمام توغله فيها، وخصص جزءاً من جهوده للتدخل في شؤون دول عربية أخرى، خصوصاً في الخليج والجزيرة العربية، مما جعل تلك الدول تقاطع لبنان وتصنف الحزب على لوائح الإرهاب، في وقت غرقت البلاد في أزمات خانقة بقيت وتستمر من دون مخارج.
الإضافة الجديدة إلى الصورة القديمة كانت بروز الحاجة الإيرانية إلى تصعيد المواجهة مع إسرائيل ربطاً بأوضاعها الداخلية وحساباتها الإقليمية والدولية، والأميركية خصوصاً، فقد دأبت إيران منذ الثورة الخمينية على رفع شعار فلسطين وهي أهدت مقر السفارة الإسرائيلية السابق فيها إلى "منظمة التحرير" الفلسطينية وأعلنت احتفالاً سنوياً بيوم القدس، لكن هذا الحرص على فلسطين لم يتطور أبداً إلى خوض معركة مباشرة مع إسرائيل، فبقي في حدود الموقف السياسي التعبوي المذهبي، ولم يغيّر اندلاع "حرب الظلال" بين تل أبيب وطهران على خلفية مشروعها النووي المترافق مع سردية إزالة إسرائيل من الوجود في ثبات إيران على نهجها الخطابي من دون تخطي حافة التوتر إلى الحرب.
وفي الأثناء، أزعجت إسرائيل إيران من داخلها في عمليات تخريب واغتيالات وتجسس، حققت خلالها نجاحات مثيرة بينها سرقة ملفات البرنامج النووي في شاحنات ونقلها إلى تل أبيب، وأبرزها أخيراً التحقيق في إيران نفسها مع مسؤول في الحرس الثوري مكلف باغتيال إسرائيليين في قبرص...
كانت "الحرب بين حربين" الوجه الآخر لـ"حرب الظلال" وتتمة لها، فالغارات الإسرائيلية لم تتوقف على المواقع الإيرانية والحليفة في سوريا وهي أوقعت قتلى وجرحى بينهم من يتولى مراكز حساسة في الحضور الأمني الإيراني داخل الأراضي السورية، وتم ذلك تحت عنوان وضعته إسرائيل مفاده منع التموضع الإيراني في سوريا ووقف تدفق الأسلحة والصواريخ من إيران إلى "حزب الله" في لبنان.
كان لافتاً تصاعد التوتر بين إسرائيل وخصومها بالترافق مع تنشيط الاتصالات الأميركية – الإيرانية التي يبدو أنها توصلت إلى تفاهمات محددة في شأن الرهائن الأميركيين في طهران والإفراج عن أموال إيرانية في كوريا الجنوبية عبر قطر، وتدفع هذه الوقائع إلى التساؤل عن سير "حرب الظلال" أو "المعركة بين حربين" في المرحلة المقبلة.
فإيران تتحدث وتعمل بطريقة مختلفة، وكذلك إسرائيل، وأميركا تعزز حضورها العسكري في الخليج والمنطقة تحت عنوان ردع التهديدات الإيرانية، و"حزب الله" يقف أكثر من أي وقت مضى منتظراً القرار الإيراني الذي بات شريكاً في صنعه، على حد قول مسؤولين إسرائيليين، يتصرف "بجرأة" في الآونة الأخيرة بعض مظاهرها تجلت في دورياته المعلنة على الحدود اللبنانية وبنائه خيمتين في مزارع شبعا ونشره عناصر في نحو 35 نقطة حدودية، بحسب المزاعم الإسرائيلية.
يرى محللون إسرائيليون في قراءتهم للوقائع المستجدة، أنه بعد مرور 50 عاماً على حرب أكتوبر (تشرين الأول) بين إسرائيل من جهة ومصر وسوريا من جهة أخرى، تزداد احتمالات حرب شاملة، ساحاتها الآن مختلفة عن ساحة الجيشين المصري والسوري، بحيث إنها ساحة موحدة لتنظيمات تدعمها وتقف على رأسها إيران، صاحبة القرار في هذه التنظيمات.
تشك إسرائيل في قيمة الاتفاقات الأميركية - الإيرانية إذا لم تنعكس تغييراً في سلوك طهران تجاهها، وما تستشعره حتى الآن هو مزيد من "التفرغ" الإيراني للعمل ضدها عبر شبكة المنظمات التي بنتها في إطار "محور المقاومة".
يربط الكاتب الإسرائيلي غيورا آيلاند (يديعوت أحرونوت)، التهديد بالحرب بسلوك طهران الذي يعود برأيه لثلاثة أسباب:
الأول أن إيران تشعر حالياً بأنها أفضل حالاً، فروسيا تحتاج إليها والصين تغازلها وأميركا تخشاها وتفاوضها!
والثاني، نجاحها في تزويد فروعها بسلاح دقيق كان قبل عقد حكراً على الصناعات العسكرية الإسرائيلية.
والثالث، إيمان إيران بأنها إذا نجحت في توحيد الساحات و"تفعيل" "حزب الله" وميليشيات أخرى في سوريا والعراق وحتى اليمن وإثارة الفلسطينيين في الضفة وغزة عبر منظمتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" ومعهما كثير من مواطني إسرائيل العرب، فإن "إسرائيل لن تتمكن من الصمود".
لا يبتعد هذا التقييم الإسرائيلي عما يعلنه قادة إيران، فالمرشد علي خامنئي يكرر حديثه عن نهاية إسرائيل وفقدانها القدرة على الصمود والبقاء، ففي مطلع أبريل (نيسان) الماضي توجه إلى المسؤولين الإسرائيليين قائلاً "نحن قلنا إنكم لن تشهدوا الأعوام الـ20 أو الـ25 المقبلة، لكنهم استعجلوا ويريدون الزوال أسرع".
كان خامنئي يشير إلى الخلافات الداخلية في إسرائيل بسبب الصراع حول القضاء الذي أدى إلى انقسام عميق انعكس سلباً على جاهزية الجيش والاحتياط، خصوصاً سلاح الجو، بسبب رفض شرائح عسكرية واسعة خطة الحكومة القضائية.
والخلاف الداخلي الكبير في إسرائيل بات ركناً في تحليلات إيران وأنصارها، فأمين عام "حزب الله" حسن نصرالله يضعه في حساباته الإسرائيلية وهو يتابع بدقة النقاشات العلنية الكثيفة في تل أبيب على مختلف المستويات حول هذا الموضوع لتدعيم نظريته حول أن إسرائيل هي "أوهن من بيت العنكبوت".
لقد كان هجوم مجدو الذي نفذه متسلل من لبنان في مارس (آذار) الماضي نقطة تحوّل في الفصل الجديد من المواجهة المعلنة، وعلى إثره اعتبرت إسرائيل أن التهديدات الإيرانية بدأت تجد ترجمتها العملية وزاد في قناعتها هذه تصاعد المواجهات والعمليات الفلسطينية في الضفة الغربية التي أشادت بها طهران وبـ"الأيدي الخفية" التي تدعمها، وترافق ذلك مع حضور قائد "الحرس الثوري" اللواء اسماعيل قاآني إلى بيروت في أبريل الماضي إبان معركة "الجهاد الإسلامي" في غزة واجتماعه مع نصرالله ورئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية بالتزامن مع إطلاق صواريخ من جنوب لبنان ضد إسرائيل.
اعتبرت إيران وفروعها أن الصواريخ من لبنان هي تأكيد لوحدة الساحات اللبنانية والفلسطينية والسورية، لكن قائداً في "الجهاد" سارع إلى نفي شمول سوريا بهذا المفهوم لأن "قيادتها هي التي تتخذ القرار الملائم"، وبعد هذا الاستثناء لسوريا كانت معركة "الجهاد" في غزة امتحاناً بارزاً للمفهوم الإيراني عن وحدة الساحات الذي سرعان ما سقط لدى امتناع "حماس" عن المشاركة في المعركة على رغم اغتيال عدد من قادة "الجهاد" الكبار.
يأخذ الإسرائيليون، على رغم هذه الوقائع والتجارب الأولى، مسألة الحرب على جبهات عدة على محمل الجد ويستعدون لها كتحدٍ هو الأبرز منذ حربي 1967 و1973.
في مطلع مايو (أيار) الماضي، نظم الجيش الإسرائيلي يوماً دراسياً لقادته في مقر القيادة الشمالية (بمواجهة لبنان وسوريا)، وتناولت الأبحاث في هذا اليوم متابعة تفصيلية لاستعدادات قوات "حزب الله"، خصوصاً فرقة "الرضوان". وقال رئيس الأركان هرتسي هليفي أمام العسكريين إنه "في خطة الجيش متعددة الأعوام، من المهم زيادة الاستعداد والتدريب للقتال في جبهات عدة في الوقت ذاته"، وتعمق المشاركون في اليوم الدراسي في استعراض دور "القوات الخاصة للحزب ومناقشة استعداداته لحرب كبرى مع إسرائيل"، بما في ذلك "نشاطه في حالات الطوارئ والحالات العادية وتعزيز قواته على الحدود وتحصيناته ومواقعه في القرى ونقل الذخائر إلى المنطقة الحدودية".
وقبل أيام قليلة، وضع جهاز الأمن الإسرائيلي تقريره عن الحرب بصيغة سيناريو "معقول - خطر" وفيه احتمال أن تتحول تلك الحرب إلى معارك على جبهات عدة، تطلق فيها آلاف الصواريخ يومياً على إسرائيل (6 آلاف في اليوم الأول) فتتعطل الإمدادات والاتصالات.
ويعتقد التقرير بأن كل الجبهات التي تتأثر بإيران ستدخل في القتال وأنه تم التحضير في إسرائيل لمواجهات كهذه منذ عام.
وفي الواقع، تتالت المناورات الإسرائيلية العسكرية طوال العام الماضي وبعضها بمشاركة أميركية، وبدا في بعض الأحيان أن الحرب ستندلع، فساعدت حسابات كثيرة إيرانية وإسرائيلية وإقليمية ودولية في تبريدها ولو موقتاً ولذلك بقيت حرباً مؤجلة. لكن إلى متى؟
في الـ10 من أغسطس (آب) الجاري، كتب أورون سولومون في أسبوعية "مكور ريشون" القريبة إلى الصهيونية اليمينية التي تمسك بالحكومة الحالية أنه "في هذه المرحلة المصلحة الإيرانية هي في جعل الأمور أصعب على إسرائيل. أن ينزف دمها من دون الوصول إلى حرب بالضرورة، لكن هذا لا يمنع الوصول إلى الحرب".
ومثلما يقول خصوم إسرائيل إن أوضاعها الداخلية ربما تدفع حكومة بنيامين نتنياهو إلى فتح جبهات خارجية، يقول الإسرائيليون إن "حزب الله لم يعد يستخدم فقط كذراع تنفيذية لأوامر إيران، فنصرالله بات جزءاً من عملية اتخاذ القرار الإيراني"، وهو إزاء الانهيار في الأوضاع اللبنانية، يمكن أن يجد طريقه "لتحويل الغضب الداخلي إلى إسرائيل" في حرب ستعيد لبنان "للعصر الحجري"، كما هدد وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت.