يقرأ الفلسطينيون واقعهم بطرق مختلفة، بل برؤى متناقضة، وقد أنتجت تلك القراءات المختلفة نتائج متباينة بل متصادمة بصورة تراجيدية. وإحدى هذه القراءات أسست لانقسام كارثي بات عصياً على العلاج، بل أصبح يشكل أكبر المصائب، وأعظم تحدي أمام مشروعهم التحرري. ويذهب أكثر المتشائمين الى وصف المسيرة الفلسطينية بالعملية السيزيفية التي تسنزف بطل الرواية في حركة عبثية تعيد على ذاتها تكراراً ومراراً دون الوصول الى الهدف. إذ أنه بعد كل معركة واسعة أو محدودة، بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، أو طلائعه التي تضطلع بمهمة المقاومة، يتعثر الفعل التراكمي، بسبب هذا الانقسام وغياب الإرادة الجمعية والقوة الجامعة والمُوجّهة. ويمكن الاستدلال على ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، بموقعة مخيم جنين، الأخيرة، التي شاعت في الساحة الشعبية كمعركة بطولية، ضد الاحتلال الصهيوني، في حين رأت فيها سلطة رام الله عملا عبثيا، ويهدد سلطتها واستقرارها، فتبعتها بحملة قمعية في مخيم جنين وغيرها، وثم بمسرحية هزلية مكررة هي دعوة محمود عباس لاجتماع الفصائل تحت شعار المصالحة في مدينة العلمين، المصرية.
وهناك القراءة الرومانسية التبسيطية، غير الشعبية، التي تصدر عن نخب، التي تُضخم إنجازات يحققها الفلسطينيون بين الحين والأخر، مثل هبات شعبية عارمة، أوعمليات مقاومة جريئة، بل في غاية الجرأة والروح التضحوية، وتذهب الى القول بأن ساعة التحرير اقتربت، بدل رؤيتها كحلقة من حلقات الفعل الكفاحي في مسيرة طويلة، ومعقدة. وهي قراءة إما نابعة من شعور صادق لكنها غير مؤسسة علميا، أو نابعة من تهويل مقصود لتبرير الخط السياسي للطرف صاحب هذه القراءة . كما أن هناك من يرى في واقعنا هزيمة لا بد من الاعتراف بها، وتجنب أي شكل من المواجهة، والاكتفاء بالتنسيق مع المستعمر وتوسل النظام الدولي الامبريالي لإظهار العطف والشفقة علينا، او من خلال القيام بزيارات الى قادة النظام الصهيوني في بيوتهم.
وهذه القراءات المتباينة والمتناقضة، مفهومة في ظل ما وصل الوضع إليه، فلسطينياً وعربياً ودولياً، بحيث باتت المنظومات الرسمية في هذه النظم، إما داعمة بصورة مطلقة، أو مستسلمة، أو متواطئة مع إسرائيل ونظامها المارق، بحيث يظهر الشعب الفلسطيني وحيدا في الميدان، في مواجهة عدوان يومي ومخططات إجرامية متسارعة، وفي مواجهة نظام إستعماري يزداد ضراوةً في وحشيته وأطماعه.
ولكن هذه القراءت المتناقضة توّلدُ إرباكاً حقيقيا لدى عموم الشعب الفلسطيني، وتُشيع حالة من القنوط والانتظار، أو تشجع التعويل على الغير، أو التعويل على الزمن الكفيل بهزيمة المشروع الصهيوني، بحسب الكثيرين. وأيضا فقد أوجد ذلك كله، بل عمّق، خصوصية تطلعات مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني، ليس بفعل وحشية المستعمر فحسب، بل أساسا بسبب تفكك المشروع الوطني الفلسطيني الذي حولته جهة أساسية في الحركة الوطنية، في الواقع، من مشروع تحرري الى كيان بلدياتي هزيل لحماية المشروع الاستعماري، أو حرفته جهة أخرى إلى مشروع اسلاموي.
لكن هناك القراءة الأخرى، والأكثر تماسكا، أخلاقيا وسياسيا، واستراتيجيا، والتي يسعى أصحابها أو روّادها إلى جعلها خطاباً عاماً، مستمدا من إرث حركة التحرر الفلسطينية، إرثٌ مُوحّد ومُجنّد، وسط كل هذا الخراب، إستنادا إلى مظاهر المقاومة والرفض والصمود التي يبديها شعبنا، وطلائعه المتجددة، في الداخل والخارج، وبوسائل وبأشكال متنوعة، وفي ميادين مختلفة، والمؤسس على تقدير عقلاني لميزان القوى.
تستند هذه القراءة الواقعية، والرصينة، وذات البعد التحرري، الى فهم عميق لجذور العطب، والعوائق البنيوية، ونقاط الضعف، ونقاط القوة، في كل من واقع المستعمر وازمته الداخلية الراهنة المتفاقمة، وواقع الشعب الفلسطيني، وتطرح تصوراً شاملا لطريق جديد، يتم من خلاله تأطير الحراكات الشعبية وغيرها، في رؤية تحررية وطنية جامعة وبرنامج سياسي واضح. المعضلة التي تواجه ولادة هذا البديل على الأرض، أي تشكل جبهة تحالفية شعبية فاعلة سياسيا، هو افتقارها حتى الآن الى التشبيك، والى الخبرة التنظيمية الخلاقة التي تستجيب للتحولات الجذرية لهذا العصر. إذْ لاتزال العقلية التقليدية مهيمنة في أوساط العديد من أصحاب المبادرات، الجديدة، ولا تعوض النية الحسنة والشعور العارم بالمسؤولية تجاه شعبنا، عن غياب عنصر الخبرة والابداع والتجديد. ومن مظاهر قصور هذه المبادرات غياب تمثيل بارز وواسع للأجيال الجديدة، التي اكتسبت معرفة نظرية، واطلاع على طرق وعمل حركات الاحتجاج العالمية المعاصرة، التي ظهرت في العقدين الماضيين، وتمكنت هذه الحركات من تغيير حكومات وسياسات، واسقاط أنظمة. و يُسبب عجز هذه المبادرات عن احداث اختراقات حقيقية، إحباطا إضافياً لدى عموم الناس وحتى النشطاء .
ويجب التنويه إلى أن هناك عشرات المبادرات الفلسطينية داخل الأرض المحتلة عام ١٩٦٧، وفي الشتات، وفي دول الغرب بشكل خاص، التي تنشط من أجل التغيير. ورغم أهمية العديد من هذه المبادرات، إلا أنها لا تزال قاصرة عن إحداث انقلاب في واقعنا. أما المنطقة المحتلة عام ١٩٤٨، حيث تداعيات الممارسات الاستعمارية وصلت الى مستوى لم يتخيله أحد من حيث الخطورة، والمتمثل بالجريمة المنظمة، فلا تشهد مبادرة واحدة جدية أو ذات شأن؛ مبادرة لإعادة تنظيم المجتمع الفلسطيني، شعبياً، للدفاع عن نفسه وعن أمن أفراده. ولم تشعل حركة الاحتجاج الإسرائيلية، الصهيونية ضد الإئتلاف الحاكم، المتواصلة منذ أربعة اشهر، خيال قيادات فلسطينيي المنطقة المحتلة عام ١٩٤٨، لاطلاق حركة احتجاج فلسطينية كفاحية يساندها يهود تقدميون، تطرح بقوة مطالب وحقوق هذا الجزء من شعبنا، ترتبط برؤية واستراتيجية تحررية شاملة وجامعة للكل الفلسطيني.
في ضوء ذلك كله، أومقابل نقاط الضعف، على ماذا نعوّل، عدا عن عدالة قضيتنا الوطنية، وماهي مصادر قوة شعبنا الفلسطيني، المتبقية، أو المتشكلة حديثا.. التي يمكن أن نستعين بها في معركتنا ضد منظومة القهر الاستعمارية، و من اجل تحقيق التحرر والعدالة والمساواة..
أولها؛ وهي قوة معنوية وثقافية وتاريخية، تتمثل في عملية الاستعادة التدريجية للوعي بوحدة فلسطين، وشعب فلسطين، وعودة الادراك بكون النظام الصهيوني بنويا نظاماً وحشيآً وعدوانياً، الامر الذي يشكل وقودا للرفض والتمرد المستمرين، من جانب شعب فلسطين.
ثانيها؛ عودة الالتفاف الشعبي، العالمي، حول قضية فلسطين، و تأكل الرواية الصهيونية وانكشاف زيفها، واساطيرها الباطلة. وتعزّز ذلك بصدور تقارير هامة لمنظمات حقوق انسان دولية، تضع إسرائيل في مصاف أنظمة الابرتهايد والفصل العنصري. ويتصدر النضال المدني العالمي في مواجهة هذه الاساطير ومن اجل مقاطعة الكيان، حركة ال BDS، المتحالفة مع احرار العالم، من حركات شعبية وتنظيمات شعبية، واطر اكاديمية ومثقفين، تقدميين، يتبنون قيما كونية كالعدالة والمساواة، في إطار ما اصبح يعرف بتقاطع النضالات.
ثالثا، المبادرات المنظمة التي تسعى الى إعادة بناء مؤسسات الحركة الوطنية الفلسطينية، واستعادة المشروع التحرري الفلسطيني، الأصيل، وتحديثه بما يستجيب مع تطورات العصر، ومفاهيمه الإنسانية الكونية. وهذه الأخيرة، تحتاج، هي أيضا، وليس فقط الهياكل التقليدية المتهالكة، الى مراجعة نقدية جدية، لتعيد تشخيص أسباب عدم نجاحها حتى الآن في التحول الى قوة جماهيرية وسياسية فاعلة على المستوى الوطني العام.