الخميس  21 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

رحيل طلال سلمان وصوت الذين لا صوت لهم

2023-08-26 12:12:44 PM
رحيل طلال سلمان وصوت الذين لا صوت لهم
رولا سرحان

يَحشرُ الخبر المحزن غصة في القلب عندما تحمل كلماته وفاة صحفي ومثقف عروبي كبير مثل طلال سلمان، الذي أسس صحيفة السفير اللبنانية لتكون منبرا يتحدث باسم المضطهدين والمهمشين والأحرار. سينظر إلى الموت من زاوية كهذه كأنه عقوبة أو قصاص، ويصبح مقاما لجردة حساب مع واقع عربي انتهكته صحافة الابتذال، وإعلام الأجندات المنقسمة، وتربع فيه المؤثرون على مواقع التواصل الاجتماعي مصدرا للخبر ومصدرا للثقافة. هذه الفورة الإعلامية التي قتلت مفاهيم الثورة في الإعلام والحياة، ستجعلنا مشرّحين غير مشروحين. لأنها في الوقت الذي تتيح فيه حيزا لكل أنواع الخطابات، إلا أنها تزيد فيه من حدة الانقسامات. سيصير الخطاب خطابات، ليس كتعددية ولكن كإقصاء لخطاب الآخر. وسيترك ذلك انقساماته داخل الهوية الواحدة بما يظل يقسمها حتى تتشظى، منتجةً فوضى الهوية. ستصير كل هوية فرعية ثانوية وهامشية هي الهوية الأولى التي يراد لها أن تعبر عن الوطن، وهي في ذات الوقت أيضا تتركنا دون تفسير مقنع أو منطقي عن معنى هذا التفكيك المخيف للهوية. 

كان طلال سلمان، في كتاباته، وفي عموده الافتتاحي "على الطريق"، يخشى فوضى الهوية تلك، التي لا تؤمن إلا بالجماعات والقبائل والطوائف والمذاهب، والتي كانت تؤدي بواقعنا العربي إلى مزيد من المآسي والفجائع. ففي تلك الفوضى ستنخسف قيمة الحياة، وسيصير معناها استثناء، لتحل قاعدة الموت محلها وتكون هي الراحة التي يسعى إليها المهمشون. سينقلبُ معنى الحداثة، الذي صار "دين العرب" كما يقول طلال سلمان، ليكون طريقا لطرد الإنسان العربي خارج إنسانيته، فهو لم يكن يوما في المركز وعليه أن يظل في الهامش، دون صوت، ودون حق في أن يكون له صوت. 

سيحول الواقع العربي الإنسان العربي إلى مسخ كافكاوي، وإلى سجين دائم المأسورية في كونه أقل من إنسان، يعيش قصته على شكل حرمان مستدام من أدنى حقوقه باسم شعارات كبرى، كالحداثة، وتخطي الهزيمة، والدين، والديمقراطية، والعلمانية. وكلها تعيد إنتاج أدوات تدمير إنسانية الإنسان العربي ليظل يحرك رأسه تحت مقصلة الوعود بوطن سعيد، فيما يعيش في مستعمرة عقابية، ينفى إليها وهو فيها، بما يحقق مقولة النفي داخل الوطن لا خارجه. 

وليس من الصعب توصيف حالة النفي الداخلي بتعابير ماركسية، أو بتعابير مدرسة فرانكفورت بعملاقيها أدورنو وهوركهايمر، كاستخدام مصطلحات التشيؤ، والتغريب، أو خلق الفرد الذابل. لكن طلال سلمان صك مصطلحه الخاص، ليعبر عن حال الإنسان العربي الذي يعيش حالة من "الانقماع الذاتي". وهو مفهوم يبدو قريباً في موسيقاه من مفهوم "الإقناع الذاتي" ذائع الصيت في علم النفس الاجتماعي، لكن مفهوم سلمان، أكثر دقة وأصالة في تشخيص الواقع الاجتماعي والنفسي للإنسان العربي. فالإصطلاح درجة متقدمة في سلم القمع والرقابة، والتي في الأغلب تقوم على الإخضاع المباشر، بحيث تنتفي، لحظة الوصول إلى تلك الحالة، أي حالة الانقماع الذاتي، الحاجة إلى الممارسات الاستبدادية المباشرة العيانية أو الظاهرة، وإن ظلت قائمة. سيتحول الإنسان العربي إلى قامع ومقموع، يمارس قمعه على ذاته، وهي أقسى درجات انحطاط إنسانيته. وسيصير المصير العربي أقل تكلفة، سيزيدُ رخصاً، وسيصبح أكثر تفاهةً، وسيكون الإنسان العربي، عندها، وعندها فقط، قادراً على قمع صوته وقمع صوت الآخرين.