كان الجرح الأعظم، ولا يزال، عربيا، وفلسطينيا، وانسانيا، في العقد الأخير، هو ما آلت اليه سوريا، وثورتها، من نكبة بل نكبات مهولة، هي من صنع البشر وليس من الطبيعة. وقد احتلت سوريا مكانة خاصة في قلوبنا، لعقود طويلة، بعدما كانت مصر العروبة، عبد الناصر، قد حظيت بالمكانة الأكبر، بفضل الثقل التاريخي، وللمشروع العربي التحرري الذي حملة عبد الناصر، الى أن تكسّر على نضال الاخفاق الداخلي والتآمر الامبريالي.
ربما بسبب الاهوال التي تواجهها أقطار العالم العربي، وكذلك العالم قاطبة، وبسبب الواقع الراهن لفلسطين، لايحظى حتى الآن ما يتوالي من حراكات شعبية جريئة متجددة جارية في سوريا منذ أسابيع، باهتمام كاف من معظم الناس، أو الفئات السياسية المختلفة، رغم أن جزءا من هذه الحراكات تجري داخل بيئة النظام. وقد سبق تلك الحراكات التي تتركز الآن في الجنوب، تحديدا في محافظتي درعا والسويداء، إقدام نشطاء أو شخصيات محسوبة على النظام، وتحديدا من اللاذقية والساحل السوري عموما، على الظهور في فيديوهات متتالية تتجرأ على بشار الأسد والنظام ككل، وليس على على الحكومة كما كان الأمر حتى وقت قريب، وتدعوه للرحيل. ويفسر المتخصصون في الشأن السوري، من الداخل والخارج، بأن هذا التحرك الجديد المفاجئ للكثيرين، جاء بفعل خيبة الأمل من عدم حدوث انفراج بالواقع المعيشي للناس، الذي كان منتظرا بعد إعادة النطام السوري الى حظيرة الجامعة العربية. ويذكر أن إعادة النظام كانت مرهونة بأن يقوم بخطوات جدية، إدارية وسياسية وانسانية، تساهم بالانفراج الحقيقي الداخلي. غير أن هذا الأمر لم يحصل مما أدى إلى نفاذ الصبر العام، فخرج ممن يمتلكون الجرأة بالتعبير عن الغضب الشعبي، والخيبات المتتالية، خاصة وأن بيئة النظام ظنّت أنه بعد "الانتصار على اكثر من ثلاثين دولة، وانتهاء داعش"، حسب دعاية النظام ستعود البلد الى حالها السابق، وتتحسن معيشة الناس. وقال ناشط من اللاذقية، في فيديو معمم، بما معناه انه يدعي انه انتصر على ثلاثين دولة في حين لا يجرؤ على الرد على العدوان الصهيوني الروتيني على سوريا .
لا تزال معظم التحليلات تتوخى الحذر في استشراف نجاح أو فشل هذا الحراك، الآخذ في التوسع، الذي يشكل الجديد فيه تجرأ أصوات، وبلغة غير مسبوقة في حدتها، على "رأس النظام وازلامه". وتذهب غالبيتهم الى الاعتقاد بأن أملا جديدا يُفتح الان أمام الشعب السوري من أجل التغيير الديمقراطي..
منظمو الموجة الاحتجاجية الجديدة يؤكدون على السلمية، كما بدأت الثورة في الشهر الأولى من عام ٢٠١١، والتي اغرقها النظام ببحر من الدماء قبل أن تتدخل وتتـآمر على الثورة قوى دولية غربية وشرقية، وأنظمة خليجية، ومنظمات اسلاموية فاشية، مما حولها الى حرب، بالوكالة، حربٌ من اكثر الحروب وحشية منذ الحرب العالمية الثانية.
تنتشر على السوشيال ميديا نقاشات حامية، ويناكف الكثير من ضحايا النظام في الخارج، أنصار النظام الذين يخرجون الآن بفيديوهات ويتحدثون عن النظام "كعصابة دمرت البلد وسرقته"، بالقول لهم : "أين كنتم عندما كان الملايين يُذبحون ويُطردون ويهجرون، والآلاف الذين يُعذبّون في السجون". ويرد عليهم العاقلون، بأن الظرف الحالي لا يسمح بهذه المناكفة، ولا يخدم عملية التغيير المنشودة، وما نحتاجه هو الوحدة، والعمل المشترك، وإنقاذ سوريا، بلدنا جميعا.
ونحن كفلسطينيين، وكجزء من العالم العربي، نتطلع لأن تتوالى موجات الإنتفاضات السلمية، ليس في سوريا فحسب، بل أيضاً في عموم أقطار العالم الوطن العربي، والسير في طريق التحرر الاقتصادي والسياسي، وتحقيق تطلعات الانسان العربي، بالامن والاستقرار والعيش الكريم، في وطن حر من الاستبداد والاستعمار .
إن فلسطين هي ضحية الاستعمار العالمي، والاستعمار الإستيطاني الصهيوني، و ضحية العجز العربي، والمتاجرة بها، والتواطؤ، واالخيانة، التي تتجسد اليوم في تحالفات امنية علنية، بعد أن كانت سرية، مع الكيان الإسرائيلي. و إن القاعدة الغربية الاستعمارية التي فرضت في فلسطين عام ١٩٤٨، هي الركيزة الأساسية التي تستخدم لترسيخ الهيمنة الغربية والصهيونية على المنطقة العربية، وتحظى بالحماية المطلقة، والافلات من العقاب.
وقد بات الوضع اكثر خطورة وانحطاطا، بعد كارثة اتفاق اسلو، الذي ولّد انقساماً، وسلطتين، تتنازعان على السلطة تحت الاحتلال، وكذلك انتج سلطة تحولت الى كيلة للاستعمار الاستيطاني الذي يتمدد دوما في كل فلسطين التاريخية، وهي السلطة التي يتربع على عرشها اوليجاركية فلسطينية متواطئة وفاسدة، ذات نزعة سلطوية لم تعهدها حركة التحرر الفلسطينية. هذا ناهيك عن اخراج تجمعات فلسطينية من الحل، كاللاجئين، وفلسطينيي ال ٤٨، الذين باتوا اليوم في مواجهة اشبه بابادة جماعية على يد نظام الابرتهايد، من خلال اطلاق العنان للجريمة المنظمة. هذا التجمع الفلسطيني أيضا يحتاج الى ثورة قبل فوات الآوان.
وهنا يطرح السؤال الدائم، كيف أن كل ما حصل في العالم العربي من انتفاضات شعبية غير مسبوقة، التي انتقلت من بلد الى بلد، كعدوى ثورية، دون أن يحصل ذلك في فلسطين. أي كيف أن كل المعارك والانتفاضات الشعبية الهامة، في مواجهة الحصار الاجرامي على قطاع غزة، ومواجهة تغول وتمدد المشروع القمعي الصهيوني في الضفة الغربية والقدس، في العقد الأخير، لم تؤد الى انهاء الانقسام، الكارثي، والأهم كيف أنها لم تتمكن من ردع سلطة رام لله عن مواصلة دورها اللحدي، دور الوكالة في حماية امن إسرائيل.
هذه أسئلة يجب أن يعاد طرحها مرة تلو الأخرى، ومقاربتها بصورة مبتكرة، وخلاقة، حتى يمكن استحداث استراتيجيات عمل شعبي وسياسي، تفتح الأفق أمام مسار تغييري حقيقي. لا يُعقل أن يتم إهدار التضحيات الجسيمة التي يقدمها الشعب الفلسطيني، بعد كل معركة او انتفاضة، فلا بد من إعادة الناس الى السياسة، الى سياسة الشارع، الضاغطة من أجل تبديل الواقع، وهذا يحتاج الى عقول حرة، ومبدعة، وجريـئة، وشعبنا زاخر بها، لبناء الكتلة التاريخية القادرة على صنع الفرق بين الحاضر والمستقبل.