الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

المكون الإفريقي في "إسرائيل".. الهاجس المزمن للمؤسسة الرسمية

2023-09-03 08:12:50 AM
المكون الإفريقي في
أرشيفية

خاص الحدث

أعادت مشاهد المواجهات التي وقعت في تل أبيب بين طالبي اللجوء من إريتريا والشرطة الإسرائيلية، ذاكرة المؤسسة الإسرائيلية عدة عقود إلى الوراء، شكل فيها الأفارقة هاجسا كبيرا لإسرائيل الرسمية، وكانوا بمثابة حركة احتجاج اجتماعية ظاهرة أحيانا وكامنة أحيانا كثيرة، وقد وصل الحد إلى وصف المكون الإفريقي بـ التخريبي والرجعي والجاهل.

تشير التقارير الإسرائيلية إلى أن التظاهرات التي وقعت في عدة أحياء بمدينة تل أبيب، يوم السبت 2 سبتمبر، أدت إلى إصابة العشرات من المتظاهرين وعناصر الشرطة، وقد تم بث صور ومقاطع فيديو لطالبي اللجوء وهم يتجولون بالعصي، بينما كانوا يرشقون الشرطة بالحجارة، فيما يظهر ضباط الشرطة وهم يتجولون في الشوارع حاملين بنادقهم ويلقون قنابل الغاز والصوت على الجموع، ويعتقلون كل من يتمكنون من الوصول له.

الشرطة الإسرائيلية قالت إنها تجري تقييما للوضع بقيادة قائد منطقة تل أبيب وبمشاركة مفوض الشرطة الكبير المفتش يعقوب شبتاي، وتقرر نشر مئات من رجال الشرطة، إلى جانب قوات كبيرة موجودة بالفعل في الميدان. ووفقا لبيانات الشرطة، أصيب العشرات من عناصر الشرطة، واعترفت بأنها استخدمت الرصاص الحي ضد المتظاهرين، ودعت إلى الابتعاد عن نقاط المواجهة.

ويتضح من التقارير التي نشرها الإعلام الإسرائيلي أن هناك توجه لهندسة رواية تحاول تصوير الأزمة بأن الإشكالية الحقيقية هي بين النظام الارتري وطالبي اللجوء ولكن تعاسة حظ الإسرائيليين أنها تجري في تل أبيب.. ولعلّ السبب وراء تصدير هكذا رواية ومحاولة خلق هذا النوع من التصور هو منع توسع المظاهرات إثنيا لتشمل كل الأفارقة (مواطنون ولاجئون) والذين يعانون جميعا من ظلم وتمييز المؤسسة الإسرائيلية بحقهم. رغم أنه في السنوات الأخيرة، وفي ذات الأحياء، ومع ذات المكون الاجتماعي، وقعت مواجهات بسبب الإجراءات والقرارات الإسرائيلية بحقهم.

تستعرض هذه المادة، أهم موجات الاحتجاج التي قام بها الأفارقة في إسرائيل، والتي كادت أن تتحول إلى حرب داخلية:

أولا: تمرد واد الصليب

وقع في أحد أحياء حيفا القديمة. وقد سميت الحركة الاحتجاجية باسم الحي الذي هجر سكانه الفلسطينيين عام 1948 على يد عصابة الهاغاناة الصهيونية. وعمدت حكومة الاحتلال خلال خمسينيات القرن الماضي على توطين يهود من شمال إفريقيا وعلى وجه التحديد من المغرب، في بيوت الحي التي هجّر الفلسطينيون منها.

في موقع قريب من الحي، أقيمت أحياء لليهود الأوربيين (الأشكناز)، وقد كانت تختلف جذريا من حيث الخدمات والاهتمام الرسمي، وهو ما خلق شعورا طبقيا إثنيا مزدوجا لدى سكان الحي. ولذلك، يعتبر واد الصليب مثالا واضحا في التأصيل للتمييز والعنصرية داخل "المجتمع الإسرائيلي" تجاه اليهود من أصول شرقية وعلى وجه الخصوص إفريقية.

في التاسع من يوليو من العام 1959 وقع شجار داخل أحد المقاهي، وتدخلت الشرطة الإسرائيلية، وحاولت اعتقال أحد الأشخاص، وخلال محاولتها هذه، أطلقت النار عليه وأصابته بجروح خطيرة، واستخدمت القوة المفرطة بحق الآخرين المتواجدين في المقهى. لم ينظر سكان الحي لهذا الحادث كحالة خارجة عن سياق القمع الناعم والتمييز الواضح الذي يعاني منه اليهود الشرقيون، وهو ما خلق لديهم ردة فعل عنيفة وفورية.

بعد القمع الشديد الذي تعرض له من كان في المقهى، تواردت أنباء لدى سكان الحي بأن الجريح الذي أطلقت النار باتجاهه بشكل مباشر، توفي متأثرا بإصابته، وكانت هذه هي الشرارة التي دفعت السكان للانطلاق مشيا على الأقدام باتجاه أحياء قريبة يسكنها اليهود الأوربيين، وقد صدم المحتجون بالفروق الكبيرة في طبيعة ونمط وخدمات هذه الأحياء، فقاموا بتحطيم المركبات والبيوت والمحال التجارية فيها، وحطموا كذلك مقرات للحزب الحاكم "مبام" ومقر "الهستدروت" وهاجموا مؤسسات حكومية، ووقعت خلال ذلك مواجهات عنيفة مع الشرطة.

مع انتشار الأخبار حول التمرد في واد الصليب، والذي قوبل بقمع شديد تمثل باستخدام القوة وتنفيذ حملات اعتقال واسعة، خرج اليهود المغاربة في عدد من المدن والأحياء، منددين بالعنف والتمييز بحق سكان واد الصليب، ولكن الشعارات تجاوزت حدود هذا الحدث، وإنما تضمنت مطالب بإنهاء حالة التمييز بحقهم والتعامل معهم كمواطنين وكمكون رئيسي في المشروع الصهيوني. حيث أن النظرة السائدة كانت أن الصهيونية من إنتاج الحالة الأوروبية وبالتالي اليهود الأوربيين، وأن مهمة هؤلاء (اليهود الأوربيون) هو العمل على ترقية اليهود الشرقيين وتطوير ثقافتهم لأنهم قدموا من بيئات "متخلفة".

ولّدت هذه الحركة الاحتجاجية التي بدأت تتوسع خشية كبيرة لدى المؤسسة الإسرائيلية (حكومة وإعلام وشرطة..ألخ)، والتي كانت تحاول في البداية تصوير المحتجين كمثيري شغب دون التعرض لمطالبهم أو الظروف التي دفعتهم للاحتجاج. وفاقم من هذه الخشية تشكل تنظيم أطلق على نفسه "تكتل القادمين من شمال إفريقيا" بقيادة المغربي ديفيد هروش. وبعد محاولات كثيرة لتجاهل الاحتجاجات، شكلت الحكومة الإسرائيلية لجنة تحقيق رسمية.

كان تشكيل لجنة التحقيق بمثابة اعتراف أولي بمطالب المحتجين، بغض النظر عن نتائج اللجنة التي جاءت متساوقة إلى حد كبير مع النظرة الصهيونية الأشكنازية (النظرة التي تحكم المؤسسة الرسمية).  فقد رأت اللجنة أنه يجب دراسة أوضاع المستوطنين القادمين من شمال أفريقيا، لكنها عادت وأكدت على دونيتهم الثقافية التي لا تؤهلهم لأن يكونوا في مراكز سياسية واقتصادية واجتماعية مهمة. ولم تشر إلى العنصرية كفعل منظم بل اعتبرته "طبيعة ناتجة عن الفروق في الظروف التاريخية لتشكل ثقافة كل طرف"، وهو ما يعني مأسسة العنصرية وشرعنتها.

لم يكن متوقعا من لجنة التحقيق الرسمية أكثر من ذلك، لكن احتجاج واد الصليب دق ناقوس الخطر أمام المؤسسة الرسمية، ونشّط إلى حد ما مشاعر التضامن بين الفئات الواقعة تحت تأثير السياسات العنصرية والتمييزية. ويجمع خبراء ومؤرخون في إسرائيل على أن التمرد كان بداية لمرحلة من المواجهة بين الشرقيين والمؤسسة الرسمية ذات الطابع والطبيعة الأشكنازية. لكنه فشل في جمع كل اليهود الشرقيون لأنه ركز على الأفارقة وعلى الشمال إفريقيين تحديدا والمغاربة على وجه الخصوص، ولم يستطع كذلك بناء وتشكيل خطاب سياسي شامل وقادر على مواجهة المؤسسة الرسمية.

ثانيا: حركة الفهود السود

يعتبر تمرد واد الصليب بمثابة الأب الروحي لما حدث من أحداث تمرد لاحقة، وهنا تكمن أهميته الخاصة. ولعل الاستنتاج بأن حصر حركة التمرد باليهود المغاربة، أعطى فرصة لآخرين لتجاوز هذه النقطة من خلال تشكيل حركات احتجاج اجتماعية تضم أكبر قدر ممكن من الشرائح والفئات الواقعة تحت تأثير السياسات العنصرية.

الفهود السود هي حركة احتجاجية إسرائيلية من الجيل الثاني من المهاجرين من إسبانيا والشرق الأوسط. ومع ذلك، كان معظم عناصرها من الأفارقة. عملت الحركة على رفع مستوى الوعي العام بالقضايا الاجتماعية في إسرائيل فيما يتعلق بالتمييز ضد الشرقيين، وإدراجها في جدول أعمال المؤسسة الإسرائيلية الرسمية. اسم الحركة تمت استعارته من حركة احتجاج أمريكية قادها السود.

تأسست الحركة في يناير 1971 على يد مجموعة من اليهود الشرقيين في  حي المصرارة في القدس احتجاجا على الحرمان والتمييز الذي يتعرض له الشرقيون. سعى أعضاء المجموعة للتعبير عن احتجاجهم على ما أسموه "تجاهل المؤسسة للمشاكل الاجتماعية الصعبة"، والنضال من أجل تغيير مستقبلهم والمساعدة في التعليم للطبقات الفقيرة في المجتمع. إضافة إلى ذلك، انتقد مؤسسو الحركة سياسة تشجيع هجرة يهود الاتحاد السوفييتي ومنحهم مزايا عديدة، على عكس الظروف التي يتلقاها المستوطنون الشرقيون.

وكما في حالة واد الصليب، تعرضت حركة الفهود السود لحملة تشويه اشترك فيها الإعلام الإسرائيلي بقوة، وعلى وجه التحديد صحيفة هآرتس. وقد فتح وجود قيادة واضحة للحركة، على عكس واد الصليب، المجال، أمام المؤسسة الرسمية الإسرائيلية لتشويه الحركة من خلال تشويه قياداتها. واستندت الرواية الرسمية والإعلامية على فكرة أن مؤسسي الحركة مجرمون ولهم تاريخ جنائي. بالإضافة إلى ذلك، تم نشر تقارير تفيد بأن أعضاء الحركة ليسوا مستقلين، ولديهم علاقات بمنظمة "متسبين" اليسارية ومنظمة التحرير الفلسطينية.

لم تكن حركة الفهود السود، كما في حالة واد الصليب، تحمل خطابا سياسيا راديكاليا تجاه الصهيونية، على الأقل في البدايات، فهي كانت ترى جوهر الأزمة في الصهيونية الأوروبية المسيطرة على المؤسسة الإسرائيلية وليس في الفكرة الصهيونية الاستعمارية. لكنها في سياق الخطاب الاجتماعي، كانت راديكالية إلى حد بعيد، واتسم خطابها بالجمع بين الخطاب الماركسي الذي يركز على الفروق الطبقية، والخطاب القومي الذي يركز على المواطنة، وهذا يعني أنها لم تطالب في البدايات بالانفكاك عن الهوية الصهيونية بل عن هوية الدولة الصهيونية والتي تتسم بـ"الأشكنازية".

تصدرت حركة الفهود السود عناوين الأخبار في إسرائيل في يناير 1971 في ضوء نية يهود شرقيين من القدس تنظيم مظاهرات في المدينة. وفي فبراير من ذلك العام، أعلن الفهود رغبتهم في تنظيم مظاهرة كبيرة في مارس. وعندما طلبوا إقامة المظاهرة، تم رفض طلبهم بذريعة أن لديهم سجل إجرامي وتم إجراء اعتقالات احتياطية لمنع المظاهرة.

شكلت هذه الاعتقالات دفعة قوية لدى مؤيدي وأعضاء الحركة للقيام بمظاهرة واسعة في القدس. ورغم محاولات التجاهل، إلا أن رئيسة حكومة الاحتلال آنذاك غولدا مائير اعترفت بجزء من المطالب ورفضت الاعتراف والإشارة إلى المطالبين. وتكشف بعض البروتوكولات التي جرى الكشف عنها أنها كانت تخشى من اسم الحركة لأنه مرتبط باسم حركة احتجاجية في الولايات المتحدة، فقد كان لديها هاجس من تدويل قضية الشرقيين وما يتعرضون له من تمييز.

في 3 مارس 1971، جرت المظاهرة أمام مبنى بلدية القدس بمشاركة الفهود السود. وفي بداية أبريل 1971، طلب الفهود السود مقابلة رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير، وأضربوا عن الطعام بالقرب من حائط البراق حتى تمت الاستجابة لطلبهم. وفي 13 أبريل 1971، التقت مائير بخمسة من قادة الحركة في مكتبها، وحاولت التركيز على المشاكل الشخصية التي تواجه المجتمعين معها، دون التطرق للسياق الأوسع للمطالب، وبعد الاجتماع صرّحت بأنهم "غير لطيفين" وهو ما دفعهم للتجهيز لمظاهرات أخرى مستقبلية.

وفي 18 مايو 1971، وصل النضال إلى ذروته. وتجمع آلاف المتظاهرين في ساحة صهيون بالقدس وهتفوا ضد التمييز الإثني. وطالب المتظاهرون بتغيير اسم الساحة إلى "ساحة الشرقيون". ووقعت مواجهات بين المشاركين والشرطة، ووقعت إصابات في صفوف الطرفين. وفي أغسطس 1971، اندلعت مواجهات عنيفة بين أعضاء في الفهود السود والشرطة في القدس. وقد أدى تكرار مشاهد استخدام العنف من قبل السلطة إلى مطالبة بعض أعضاء الكنيست بإجراء مناقشة حول الأمر.

تعرضت الحركة للانقسام بفعل انشقاق بعض عناصرها وقياداتها الذين تخلوا عن الخطاب الاجتماعي الراديكالي لصالح العمل من داخل المؤسسة الرسمية عبر المشاركة في انتخابات الكنيست. كما أن علاقة الحركة ببعض التنظيمات اليسارية الإسرائيلية مثل "متسبين" ساهم في تراجع شعبيتها، وكذلك التحول في خطابها السياسي والذي أصبح يحمل بعدا مناهضا للصهيونية كحركة استعمارية. ومع ذلك، يحسب للحركة أنها أثارت انتباه المؤسسة الرسمية الإسرائيلية لمخاطر التمييز ضد الشرقيين.

وبالعودة للاحتجاجات التي تجري في تل أبيب اليوم، نجد أن الرواية الإسرائيلية تتجاوز العوامل الذاتية للاحتجاج في محاولة لتصويره على أنه حركة احتجاج إرتيرية - إرتيرية. وإن كان الظاهر والدافع المباشر كذلك، فإن السياق التاريخي لاحتجاجات الإريتريين تشير لأوسع وأبعد من ذلك. وكأن الرواية الإسرائيلية تستعير شيئا من التاريخ لتجاوز شيء في التاريخ.