الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

لِمَاذَا تَفْشَلُ اَلْخُطَطُ اَلْاِسْتِرَاتِيجِيَّةُ لِلْمُؤَسَّسَاتِ فِي فِلَسْطِينَ!| بقلم: مؤيد عفانة

2023-09-03 08:43:37 AM
لِمَاذَا تَفْشَلُ اَلْخُطَطُ اَلْاِسْتِرَاتِيجِيَّةُ لِلْمُؤَسَّسَاتِ فِي فِلَسْطِينَ!| بقلم: مؤيد عفانة

لعّل العنوان يحمل تناقضاً بذاته، كيف يستقيم التخطيط الاستراتيجي والفشل! حيث إن من غايات التخطيط الاستراتيجي النأي بالمؤسسة عن السقوط في براثن الفشل، فهو وُجِدَ ليكون "وصفة" للنجاح، فالخطة الاستراتيجية تعدُّ الأداة الأساسية للمؤسسات لرسم مسار عمل واضح ومتكامل للوصول إلى تحقيق غاياتها وأهدافها، بشكل شمولي، ومن خلال رؤية واضحة ورسالة وأهداف محددة، وما يتبعها من سياسات وإجراءات، وموازنات، ونظام متابعة وتقييم. وحتى أصل الكلمة "الاستراتيجية" مشتق من الكلمة الإغريقية Strato وتعني الجيش أو الحشود العسكرية، ومن تلك الكلمة اشتقت اليونانية القديمة مصطلح Strategus وتعني فن إدارة وقيادة الحروب، أي ان المفردة بحد ذاتها أكبر من الفشل.

ولكن نعود لبداية الحكاية: لِمَاذَا تَفْشَلُ اَلْخُطَطُ اَلْاِسْتِرَاتِيجِيَّةُ لِلْمُؤَسَّسَاتِ فِي فِلَسْطِينَ! إن كانت مؤسسات عامة أو هيئات محلية، أو مؤسسات المجتمع المدني، ومن خلال تتبع ودراسة وتحليل الخطط الاستراتيجية الوطنية، القطاعية وعبر القطاعية على حد سواء، والخطط الاستراتيجية التنموية للهيئات المحلية، ومؤسسات المجتمع المدني، يُلاحظ الفجوة الكبيرة ما بين أهداف تلك الاستراتيجيات وما تم تحقيقه على الأرض من نتائج ومخرجات، فهل المشكلة في مفهوم التخطيط الاستراتيجي، أم في منهجية التخطيط، أم في آليات التطبيق، أم في القائمين على التخطيط الاستراتيجي بمراحله المختلفة؟ ومن أجل الإجابة العلمية على هذا السؤال، لا بد من نقاش وتحليل الأسباب الموضوعية والأسباب الذاتية للفشل.

فمما لا شك فيه أن الاحتلال الإسرائيلي وافرازاته المختلفة، يخلق بيئة عمل تتسم بالاضطراب واللايقين في فلسطين، وتُخضع المؤسسات بأنواعها الى كل من المخاطر المنتظمة وغير المنتظمة على حدٍ سواء، وبالتالي تخلق تحدياً كبيراً في انفاذ الخطط الاستراتيجية، وخاصة الحكومية منها، كما أن ثلاثية الواقع السياسي الاقتصادي الاجتماعي تخلق أيضا تحديات موضوعية في مجال انفاذ الخطط الاستراتيجية، ولكن ماذا عن الأسباب الذاتية والتي تحمل بذور الفشل في طيات اعداد الخطط الاستراتيجية، ومن أهمها عدم واقعية التخطيط الاستراتيجي، فالاستراتيجيات لكل من المؤسسات العامة والهيئات المحلية ومؤسسات المجتمع المدني تتسم عموما بعدم الواقعية، والأمثلة كُثُر من واقع التخطيط للمؤسسات العامة في فلسطين، وكذا الامر للخطط الاستراتيجية التنموية للهيئات المحلية، والتي تحمل اطاراً شبه ثابت، كون اعدادها يتم بشكل "ميكانيكي"، وضمن سياقات بعيدة عن الواقع، فأسقف التخطيط مرتفعة جداً، مثل الهيئة المحلية التي وضعت هدفاً للتحول الى بلدية رقمية بالكامل، وخدمة الكهرباء ما زالت غير منتظمة في البلدة، وكذا الأمر في مؤسسات المجتمع المدني، والتي تحمل خططها شعارات التنمية المستدامة، وتغلق أبوابها لعدم قدرتها على دفع ايجار مقارها، رغم كم التمويل الذي حصلت عليها سابقا، ولم تستطع تحقيق "الاستدامة المالية" لها.

ومن الأسباب الذاتية الأخرى لفشل التخطيط الاستراتيجي عدم مواءمة الاستراتيجية مع الموارد المالية المتاحة، وهذه عقبة ليس من السهل تجاوزها، فأي خطة مهما كانت لابد أن تحتاج إلى أموال لإنفاذها، وفي حال انتفاء ذلك، لا يكون للخطة معنى ولا جدوى، وهذا ما يحدث حقيقة في التخطيط الاستراتيجي على مختلف المستويات، خاصّة وأن هناك خطأ "شائع" عند "المخططين الاستراتيجيين" في فلسطين، يتمحور في اعداد مغلفات مالية مرتفعة في الخطط الاستراتيجية على أمل الحصول على دعم من المانحين بقيمة تلك المغلفات، وتنقضي فترة الخطة الاستراتيجية في انتظار "غودو"، والذي لا يأتي أبداً في "الملهاة المأساوية" الشهيرة.

ومن أسباب فشل الخطط الاستراتيجية غياب المواءمة بين التخطيط الإستراتيجي والتخطيط التشغيلي حيث لا تستطيع المؤسسة إسقاط التخطيط الإستراتيجي على واقع المؤسسة تبعا لفجوة التخطيط وواقع المؤسسة التشغيلي، ومما يعمِّق هذه الفجوة عدم فهم العاملين لطبيعة الخطة الإستراتيجية وأليات تنفيذها، كون الخطط الاستراتيجية لا تتم بشكل تشاركي وانما تعد بشكل نُخبوي، من خلال شركات استشارية، أو بمشاركة عدد محدود من الإدارة العليا في المؤسسة، ومن هنا تنشأ قوى مقاومة التغير داخل المؤسسة، إمّا لعدم فهم الاستراتيجية، أو لعدم قدرة المستويات التنفيذية على تطبيقها، أو لتضارب المصالح داخل المؤسسة. كذلك من أسباب فشل الاستراتيجيات التغير السريع واللا مدروس في بيئة العمل، فالاستراتيجية هي، في أغلب الأحيان، خطة بعيدة المدى، تمتد من 3-5 سنوات وأحيانا أكثر، وفي ظل التغيير الارتجالي في قيادة المؤسسات، فإن فهم الاستراتيجية سيكون منقوصاً، ولعل فلسطين الدولة الوحيدة في العالم التي تشهد ظاهرة تقاسم وتحاصص الهيئات المحلية بين العائلات، لدرجات متطرفة وصلت في بعض الهيئات المحلية، ان يكون الرئيس لأشهر عدّة فقط، ويستبدل بمرشح العائلة الأخرى، فكيف سيستطيع فهم وانفاذ الاستراتيجية! ومن أسباب الفشل أيضا العجز عن وضع الأهداف الذكية، والعوم في الأهداف الفضفاضة، وضعف الهيكل التنظيمي للمؤسسة، والافتقار الى المعلومات والبيانات والاحصائيات فالتخطيط هو دراسة للماضي، واستقصاء وتحليل للحاضر، وتنبؤ بالمستقبل، وهذا كله لن يكون ممكنًا إلا عبر وجود معلومات وبيانات إحصائية دقيقة ووافية، ومنهجية علمية في تحليل تلك المعلومات، وخلق رؤية واضحة.

وختاماً، لا بد من تصحيح مسار التخطيط الاستراتيجي في فلسطين، ليصبح أكثر واقعية، فالمرحلة الأولى من التخطيط الاستراتيجي هي التحليل المعمّق لبيئة المؤسسة الداخلية والخارجية لتحديد نقاط القوة والضعف والفرص والتحديات، وهذا الأمر ليس ترفاً فكريا ادارياً، وانما ضرورة لإنفاذ التخطيط الاستراتيجي السليم، وخصوصية الحالة الفلسطينية تستوجب التعمق أكثر في التحليل البيئي الاستراتيجي، وطرح البدائل الاستراتيجية، لضمان عدم التخطيط للفشل، وسيتم تناول مقوّمات نجاح التخطيط الاستراتيجي في مقالات قادمة.