من رواية: الخنفشاوي
تحدث الكاتب، قائلا: لم أبتدع الخنفشاري ولا صنعته من أهوائي، ولم يكن عالقا في أضغاثي مع بقايا حلم، ولم أوجده من العدم، ولا استحضرته من عوالم أخرى..
الخنفشاري ليس أسطوريا ولا بطلا خارقا، ليس من العماليق ولا شبيها لعوج بن عناق. ربما يكون أحد مغرمي ظريفة الطول، أو تائها في قداسة عنات آلهة الخصب، أو حلما ومحض خيال، بل إنه والآخرون ليس أكثر من تلفيق لأشخاص حقيقيين يتجولون في المحيط،
لم أبتكرهم جميعا ولكني غيرت أسماء بعض الموجودين بكثرة، ربما هم من تعتقدونهم أيها القراء الأعزاء أو ليس من تعتقدونهم. او قد تكون أنت احدهم، وتختار شخصية رائعة تشبهك، أو قد تتهم شخصا لا تحبه بأنه أحد هؤلاء المتحركين في ظلال الخنفشاري .
قالت له:ماذا تقصد بالخنفشاري؟
أجابها: الخنفشاري هو البحث عن معنى ومضمون ودلالة ورمز لهذه الكلمة من القارىء ليجد في النهاية تعريفا خاصا ليس في قواميس اللغة .
قالت: أتعني أن حروفه قد اتسمت بالغموض المتكشف، حيث حرف الراء الخجول يصبغ دفئا على هذا الرجل الصلب، متحدا مع غموض الشين ومتراقصا مع الفاء لهذا الرجل الذي كان يقول: أنا كالبسطامي كثيرا، أرى العالم يطوف حولي.
قال الكاتب: أنت تعطينني ميزات الرجل، وما أريده أن لا يكون صورة سريالية لهذه الرواية، أم للعربي القلق وغير المتزن وغير المنسجم، مع إنفصام في التفكير وعدم القدرة على أن يتحول إلى إنسان عادي، وكذلك تأثير التخلف على هذا الإنسان والذي يعاني من المعلوم ومن الاغتراب وتحدّره نحو المجهول.
أجابها: ممكن أن تكوني مصيبة وهناك أغلفة بثنايا غير المفهوم أحيانا في الحالة الماثلة، لأن في طياتها تلابيب مضللة رغم أن الوهم منقشع بسطوع الحقيقة، ولكن المفاجئ هو قوة النهوض للإنسان المحطم والمتهالك، يصدمك ويضعك في دائرة الشك، وبالكاد تنصاعين لتصديق ما ترينه ويغرقك بمزيد الأسئلة.
وأضاف الكاتب: قررت أن أكتب عن هؤلاء وحكاياتهم، وقد تتعسّر الكتابة أحيانًا؛ لأنها ربما تكون آتية من صفاء ذهني، أومن ذاكرة دبقة، ولا آبه من قناع الكلمات أحيانا كثيرة، فأتركها على طبيعتها الرثة فلا تأتي كما أردتها او تأتي.
وتابع قائلا: وكنت قبل احتراف الكتابة كمن يرسم على الرمل، وتهب عواصف الأحداث لتتزاحم في الذاكرة، لتمحو جزءًا وتبقى بعض الصور الباهتة، وأنا أعيد إحياءها الآن، كنت قد تمعنتهم تمامًا، فأثارني وجودهم في الدائرة ، في نقطة واحدة حيث خط وهمي ما بين نقطة البدء والخاتمة، ما بين قول الخنفشاري أن الماضي هو تفسير والمستقبل وهم، وما بين الاشياء التي تعلمتها من نبيل وشحنني بها الخنفشاري.
سأَلَتْهُ: ولمَ أنت بالتحديد؟
أجاب: لأن القراء يحتاجون إلى كاتب، والخنفشاري ونبيل وأبو خديجة والأرستقراطية والبروفسور وأنت تحتاجون إلي انا كاتبًا وراويًا..أنها محاولة لكتابة جزء من الحكاية الفلسطينية والتي تعيش وترزح تحت الاحتلال، فيها رائحة المقاومة وعهن الإستسلام، رائحة الثورة وطعم الإرتزاق، رائحة الأحلام العربية الكبرى ذات المذاق الإنساني، وما يسحبها نحو القنوط والإحباط والتمركز حول الذات.
إنها محاولة للكتابة عن العذابات والمعاناة ما بين الجسد والروح، ما بين العاطفة والأحلام، بين الإيمان بالنصر والكفر بالثورة، بين العناوين وبين الهوامش، إنها بكل طوفان أحلام قد تكون هشة أو صلبه لثوري محطم.
ليقص حكايتكم كما يريدها هو، وكما تعلمين ليس لأن جوائز نوبل تمنح للروايات بل لأنها تحرس الحكايات وتربتها بقليل من الأحلام والخيال والوجدان.
وهمست أحلام، أو كما سماها "المرأة الغامرة"، لم يسمعها، صرخت على الكاتب: أيها الراوي خذني إلى داخل قلوبهم.. إلى مشاعرهم وطغيان الأفكار.. إلى رؤياك وإلى تحليلك لشخصياتهم وإعادة تركيبها، إلى عالم الفنتازيا والخيال والصور.
خذني إلى المتناقضات الصارخة، بعدما أضحت المدينة مكانا باردًا وبائسًا.
وقف مناديا بأعلى صوته: يا أيها الحاضر فينا.. أيها الماضي.. ويا أيها المستقبل..
انتظر قليلا، وأعاد المناداة: يا أيها الخنفشاري.. لم يجبه أحد.
تحرك قليلا نحو الشرق، وهبط قليلا، وصرخ من قحف رأسه بصوت مجلجل: يا خنفشاري.. يا أيها الخنفشاري.
صمت وأنصت؛ علّه يسمع مجيبا، فلم يأته سوى رجع الصوت.. أعجبه الصدى وأعاد مناداته، فسمع ارتداد الصدى؛ يضرب بطون الجبال ويعود إليه. رد الكاتب: إلى أين آخذكم معي.. إلى هدير كلماتي، ووقتها وطيفها المرسوم في قلب الحكايات؟!
وقف صارخا بأعلى صوته، مناديا نبيل: يا نبيل.. صمت، فجاءه رجع الصدى.. تحرك من مكأنه نحو الشرق، صرخ بأعلى صوته مناديا اسماء مختلفة، جاءه رجع الصدى فصم أذنيه.
جلس ما بين المسافتين؛ واضعا رأسه بين يديه، صرخ بصوت مخنوق: لا فائدة لإنكسار الروح! لا فائدة! لا يوجد! بل يوجد فوائد!
سار إلى الأمام لكنه التف في مسار دائري، وجد أنه يدور حول نفسه.. تراءت له تلك الفتاه الغامرة التي تطارد يقظته ونومه وسؤالها الذي يحتل كيأنه ويؤرقه.
لم ينتظر منها سوى أن تكون بثًّا جماليًّا صاخبًا.. تراجعت صورتها الساحرة وبقي صوتها.
وبقي الكاتب يبحث في جعبته عن إجابات حول الخنفشاري، وعن المرأة ذات النظرات الغامضة، وعن نبيل، وتماهت كلها إلى أسئلة عميقة.
نهض، وقرر في يومه هذا أن يسبر أجوبته.
سار للأمام، وأنتبه بعد مضي ساعة أنه عاد إلى موقعه الأول دون ان يشعر، توقف وخاطب نفسه كيف ذلك؟ اكتشف أنه يدور في حلقة، في دائرة.. من أين يبدأ، وأين يتنهي؟ جرب ان يعرف أين البدايات، صرخ وضحك،
وقال: ها أنا هنا مكاني أعود من حيث بدأت، وتساءل : هل هي حلقة مفرغة؟ احتلته مفرغة، وما الفرق بين حلقة مملوءة أو ممتلئة او مفرغة، أو أنه في دائرة، أو دولاب.
تراءت له تلك الفتاة الغامرة، ذات النظرة الغامضة، وهي ليست غامضة بل أحب هو ان تكون كذلك، او تخيلها كذلك، وهي تسأله: ما بك تنعم النظر؟
فقال: كيف لي أن أكتب عن النساء الجميلات، أم تريدينني أن أعبر مارا بلا تأمل؛ لاستفزاز هذا الجمال الساحق المسكون في عمق غموض نظرات عيونك، وانجذابي لابتسامتك على الشفاه الحائرة؟ أنا مستعد للتوقف أمام هذا السحر؛ بلا حراك، سوى التقاط أنفاسي وحروفي إن تمكنت.. لا أدري!
أنت أحلام الفتاة الغامرة، يحتلك الجمال الأخّاذ، فخجلت واحمرت وجنتاها.
أحلام الفتاة وأحلامه اجتمعتا لتطاردانه، ليل نهار: صورتها.. صوتها.. أسئلتها التي لا تنتهي، ولكنها تعود إلى نفس السؤال.. تغيب صورتها ويبقى صوتها: رنّانًا، هادئًا، ساحرًا؛ ففي نغماته سحر غامض، يحتله احتلالا لا فكاك منه..
تساءل"هل يحبها؟" ، أم أنها تطغى بحضورها وزخم الأسئلة؟ أم أعجزته الإجابة، وهذا ما يؤرقه!
كم مرة خاطب نفسه: آه لو أنها فتاة عابرة ومرت بلا أسئلة!