يمضي قطار التطبيع في مساره مسرعا جدا، تضيق سكته في بعض المنعطفات وتتعثر، ولكنه بلا شك يستمر في سيره باتجاهه الحتمي على مستوى الأنظمة، والرفض الكامل من قبل الشعوب العربية. وقد شهد الشهر المنصرم ثلاثة أحداث أساسية لها سياقها التطبيعي. أما ترتيبها الزمني على التوالي فقد بدأ بِإقالة الرئيس التونسي قيس سعيد لرئيسة وزرائه نجلاء بودن، التي ثارت حولها الانتقادات بسبب ما ظهر على شاشات التلفزة من محادثة ودية بينها وبين رئيس دولة الاحتلال اسحاق هرتسوغ خلال قمة المناخ "كوب 27". كان ذلك في وقت سابق من نهاية العام المنصرم، فيما كانت الأسباب المعلنة وراء إقالتها ماثلة في تحميلها وزر سوء الأوضاع الاقتصادية في تونس. عندما ثارت ثائرة التونسيين على نجلاء بودن وحديثها المشبوه، لم يقم قيس سعيد بإقالتها في حينه، بل لم ينبس بكلمة أو تعليق حول هذا الحوار، رغم شعاره الانتخابي، الذي أكسبه شرعية شعبية خلال حملته في الانتخابات الرئاسية في عام 2019، "التطبيع خيانة عظمى". خلال شهر تموز الماضي، قدمت كتلة "الخط الوطني السيادي" في البرلمان التونسي، مقترح قانون لتجريم التطبيع مع إسرائيل، وهو المشروع الثالث الذي يطرحه البرلمان التونسي منذ ثورة الياسمين عام 2011. ورغم كون البرلمان التونسي، يشكل واحدا من إفرازات أحداث 25 تموز 2021، إلا أنه بطرحه مشروع القانون سيضع على طاولة سعيد تحدياً لسلطاته الدستورية والفعلية الماثلة في اختصاصه بالمسائل الخارجية والسيادية والعلاقات الدبلوماسية، فيما سيضع أمامه معضلة أخلاقية ووطنية، تتعلق بعرقلة مشروع يجرم التطبيع مع إسرائيل.
الحدث الأبرز الثاني في مسار التطبيع كان لقاء وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش بوزير خارجية دولة الاحتلال إيلي كوهن في لقاء استمر ساعتين في روما، تسبب، نتيجة الغضب الشعبي الليبيي، في إقالة المنقوش من منصبها، وفرارها إلى تركيا، خشية على حياتها. رئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة، الذي تملص من المسؤولية، وبدا شديد اللهجة في رفض التطبيع مع إسرائيل، كان في وقت سابق من بداية العام الحالي قد التقى رئيس وكالة الاستخبارات المركزية وليام بيرنز في طرابلس وناقش معه موضوع تحسين العلاقات ما بين إسرائيل وليبيا. وكانت وسائل الإعلام قد لفتت إلى أن الدبيبة طلب دعم الولايات المتحدة لبقائه في السلطة، وأن يتم تأجيل الانتخابات الرئاسية بحجّة عدم توافر الظروف الملائمة لإجرائها، في مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل. هذا في الغرب الليبي، أما على الجهة الشرقية من ليبيا، الذي تسيطر عليه حكومة الخليفة حفتر، فقد قام الأخير بإرسال نجله قائد الجيش الوطني الليبي في عدة زيارات سرية إلى إسرائيل. وحمل صدام خليفة حفتر من أبيه رسالة إلى إسرائيل يطلب فيها مساعدة إسرائيلية، سياسية وعسكرية، في مقابل تعهده إقامة علاقات دبلوماسية مستقبلية بين الطرفين. وبعد كل لقاء سري تطبيعي من الشرق أو الغرب الليبي مع إسرائيل، كانت تثور ثائرة المواطنين الليبيين، متسببين في مأزق إضافي لمسؤوليهم يضع مزيدا من العثرات على خارطة المشهد السياسي الليبي المنقسم والمتأزم.
الحدث الثالث الأبرز، والذي سيكون ضربة كبرى لجهود مناهضة التطبيع في المنطقة، يتمثل في التسريبات الأخيرة حول الجهود التي ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية في مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي. وفيما يبدو الإصرار السعودي على تحقيق شرط فلسطيني كمقابل للتطبيع بمثابة ورقة التوت التي تريد السعودية تغطية عورتها التطبيعية بها، يبدو المستوى الفلسطيني الرسمي، في حالة عجز كاملة. فهو من جهة غير قادر على الوقوف في وجه دولة عربية بمثل حجم السعودية، بحيث لا يستطيع قول "لا" لها، ولا يستطيع قول "نعم"، ومن جهة أخرى، فهو غير قادر على تقديم مشروع سياسي، أو مطالب سياسية ترضي الشارع الفلسطيني، وتحظى بأي نوع من المقبولية كذريعة للقبول الفلسطيني بالتطبيع السعودي. بحيث سيكون أي تطبيع سعودي- إسرائلي تطبيعا يشابه كل عمليات التطبيع العربية السابقة، لا يحقق إنجازا لأي من تلك الدول، ولا للقضية الفلسطينية، بل يظل تنازلا كبيرا يلبي فقط المصالح الضيقة للأنظمة العربية.
بهذه الإطلالة على المشهد العربي، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الاتفاقات العربية الإسرائيلية منذ اتفاق كامب ديفيد مروراً بأوسلو ووادي عربة و"اتفاقات إبراهيم"، سنجد أنفسنا أمام خارطة عربية مطبعة مع إسرائيل سواء سرا أم علانية، لتبدو فيها الدول العربية، التي تتخذ موقفاً صريحا ضد التطبيع، مثل الجزائر والكويت، كيغتوهات معزولة، يجب هزيمتها، أو إلحاقها بقطار التطبيع. فما تواجهه الجزائر اليوم على سبيل المثال، من محاولات عزلها سياسيا، لعزلها عن دعمها للقضية الفلسطينية، وعقابها على تصديها لقطار التطبيع السريع، كان ماثلاً في التوترات الأخيرة بينها وبين المغرب على خلفية الصحراء الغربية، واعتراف الولايات المتحدة بها كجزء من المغرب في مقابل التطبيع المغربي مع إسرائيل. يضاف إلى ذلك رفض طلب الجزائر الانضمام إلى مجموعة البريكس. فبينما أبدت دول عربية عدة اهتماما بالانضمام إلى المجموعة من بينها الجزائر ومصر والسعودية والإمارات والكويت والسلطة الفلسطينية، فقد قبل طلب كل من السعودية والإمارات ومصر، ورفض طلب كل من الجزائر والكويت والسلطة الفلسطينية.
المقاربات التي تريد إتمام رسم الخارطة التطبيعية النهائية للمنطقة كثيرة، يجري إتمام عملية رسمها بمداد الدم الفلسطيني، الذي لم يعد يساوي الكثير في نظر الأنظمة العربية الرسمية، فقد أتم مهمته منذ زمن طويل، عندما كان مسوغ بقاء الأنظمة العربية ومعامل شرعيتها في أعين شعوبها. أما اليوم، فلم تعد الأنظمة تحتاج إلى شرعية وطنية شعبية لاستمرارها، ولا تحتاج إلى قضية إنسانية عادلة تدعي المحاربة باسمها كي تظل باسمها أيضا تمارس قمع شعوبها وتقتيلهم وطردهم من أوطانهم. استبدلت الشرعية المستمدة من الفلسطينيين بالشرعية المستمدة من عدوهم. فسِرُّ بقاء الأنظمة، وشبه الأنظمة، العربية أصبح مرتبطاً بالتطبيع مع إسرائيل، الذي صار يروج له باعتباره تحالفاً وانتصاراً، ولم يعد ينظر إليه باعتباره خيانة أو هزيمة، بل انقلب إعجاباً بالعدو، وفق القاعدة الخلدونية الشهيرة "ولع المغلوب بالغالب"، وبمقدرته الاستثنائية على بناء دولة حديثة ديمقراطية، تتمتع بعلاقات استثنائية مع الولايات المتحدة وأوروبا. صارت إسرائيل نموذج الحداثة في أعين العرب المطبعين، الذين فشلوا في استنهاض وبناء دولهم الوطنية، وتحديث أنفسهم. لم يدرك العرب إلى الآن أن فشلهم وهزيمتهم داخلية، لأنها كانت تحتاج دوما إلى شرعية من خارجها، سواء بشرعية الدم الفلسطيني، أو بشرعية دعم الأنظمة الدولية لها، أو كما اليوم بشرعية من إسرائيل.
وطالما ظل العرب يبحثون عن شرعيتهم خارج أنفسهم، خارج تاريخهم وتراثهم وثقافتهم، وخارج واقعهم السياسي والاجتماعي، وخارج قضاياهم القومية العربية، فسيظلون في رحلتهم الأوديسية المتسمة بالضياع، حيث لا يعودون إلى أوطانهم أبداً، ولا يخلصون في العودة إليها. لأن هذا التوهان العربي، والضياع المليء بالخوف من مواجهة الذات العربية ومشكلاتها، يفاقم الهزيمة، التي تصبح وباء وبلاء، والذي يتم تغطيته بمساحيق التطبيع التي تخفي بشاعته ولا تعالج أسبابه، وتظل تشكل الشخصية العربية وفق مفهوم الهزيمة، فوق خارطة الهزائم التي ما تزال تتمدد وتتسع وتصبح الخارطة الوحيدة للعالم العربي. وكل ما هو خارج هذه الخارطة السياسية لعالم الأنظمة العربية، يُحارب ويقسم وينتهك ويعزل.
مع ذلك، ورغم كل هذا الاصطناع الحثيث لخارطة التطبيع التي يجب أن تحل محل خارطة الوطن العربي، بدمج إسرائيل فيها، وبمؤسساتها الاتحادية، فإنها تظل خارطة مصطنعة وغير حقيقية. فتحتها توجد الخارطة الأصلية للمنطقة، خارطة الشعوب العربية، المدفونة تحت سياسات القمع والتنكيل والنظرة العربية الدونية للذات والهوية، والتي تتشكل منها حدود الخارطة الجغرافية للأنظمة الرسمية العربية، التي أفرزتها سنوات طويلة من تقسيم المنطقة على مدار أكثر من مئة عام، منذ الاتفاقية المشؤومة لوزيري خارجية بريطانيا وفرنسا، وحتى خارطة التطبيع الحالية. وخارطة الشعوب العربية الرافضة لهذه المشهدية البائسة من جولات التطبيع، وللانهيار العربي وزمن الهزائم العربية المستمرة دون توقف، تظل تلملم ذاتها العربية وهويتها، بمعزل عن أنظمتها، عبر ثوراتها، وثقافتها المضادة، وخطابها الذي بدأ يكون متماسكا في انتظار لحظة تاريخية، لا شك في تحققها، ستمكن الشعوب العربية من تمزيق خارطة التطبيع.