الوعي الجمعي والفردي ليس حالة ذاتيةً والحفاظ عليه ليس عملا اعتباطياً يأتي صدفة أو كما يقال بالعامية "على التساهيل"، بيد أن الوعي هو حالة تنتج عن مزيج مدروس ومتسق من المعرفة المعلوماتية والدراية بالسياق بما يتجاوز قشور ومظاهر الأمور وبما يتخطى الشعارات الكبيرة والرنانة التي فقدت بريقها ولحنها. ويبدو جلياً أننا نعيش مرحلة الانكشاف التام في مجتمعنا بحيث لم يعد ممكناً التمسك بشعارات الوعي والانتماء في ظل غيابه، لا بل في ظل استبدال الوعي الذي ندعي بوعي آخر مشوه ومظلم.
حادثتين قريبتين ساهمتا كثيراً في انطلاق هذا النقاش، الأولى هي "احتفاليات" النكبة والأخرى هي سلسلة من الخطب وأعمال العربدة في القدس موجه ضد الفلسطينيين المسيحيين الذين يشكلون عماد الوجود الوطني في القدس وعنواناً بهياً للهوية الوطنية الفلسطينية. الأولى سأتناولها في هذه المقالة والثانية في المقالة التي تليها.
أما "احتفاليات" النكبة، فحدث ولا حرج. شعارات كثيرة وكبيرة ودعوات لمسيرات تسمى بالمركزية لا يتجاوز عدد المشاركين فيها بضع مئات بالكاد استطاعوا ملأ الشاشة التي بثت على الهواء مباشرة قشور ذاكرتنا. وبينما انشغل الكثيرون في التقاط "السيلفي" ومن ورائها المسيرة، تصبب العرق على جبين السياسيين الذين صدحت حناجرهم ببعض ما قالوا العام المنصرم في ذات المناسبة وأضافوا كلاماً كبيراً يتناسب في رأيهم وحجم الحدث المفجع في اليرموك لكنه يفتقد لأي مضمون أو معنى. باختصار، كانت احتفاليات الشعارات والخطابات رنانة صاخبة ومثقلة بمصطلحات مثل "المؤامرة لن تمر" و"حق العودة مقدس" و"لا تنازل"،إضافة إلى مقادير متفاوتة من المزايدات السياسية الفصائلية التي تغلب الجكر السياسي على الرسالة الوطنية، بالتزامن مع تصفيق وتصفير وانفعال. ثم تنتهي التغطية الإخبارية وتأفل معها المشاعر الصاخبة وترتاح الحناجر ويغادر المشجعون حلبة "الاستذكار" هذه إلى لقاء في العام الذي يليه ببريق واهتمام متناقصين.
المفارقة أن هذه الفعاليات الاستعراضية هي نتاج جهود القوى الوطنية والسياسية مجتمعة وخلال عام كامل. والفاجعة أن هذا الجهد ينتج عنه انتقاص للمعنى الحقيقي للذكرى بينما يتسرب الوعي بالنكبة ومعانيها وتفاصيلها من عقول أبناء شعبنا دون أن يكون هناك أي جهد لوقف هذا النزيف، ربما لأن نزيف الروح واستنزاف العقل لا يمكن تصويره ولن يحدث ضجة إعلامية تتنافس مع احتفاليات اللطم والشعارات التي قبلنا بها بديلا عن الوعي بمعنى النكبة المستمر. وهذا يظهر جليا عند تصفح كتبنا المدرسية أو الخوض في أي نقاش يتطلب معرفة تتجاوز عناوين الأحداث وتخوض في تفاصيلها ومعانيها. ورغم وجود كثير من المبادرات الشبابية الرائعة والمبدعة في هذا المجال، إلا أن هذه الأعمال لا تقوى على مجابهة حالة تغييب الوعي الجمعي الذي يشارك به جهلاً وكسلاً كل المؤتمنين على نبض الذاكرة الوطنية وعبور الوعي الجمعي للأجيال والمنافي.
قبل بضعة عقود، تناول المفكر العالمي المرموق نعوم تشومسكي عملية تغييب الوعي في الولايات المتحدة وتحدث بإسهاب عن دور وسائل الإعلام التقليدية في الترويج لرسائل وشعارات السياسيين في ظل تغييب تام للمساءلة الجادة والخوض في عمق القضايا التي تهم المواطن. وبأسلوبه اللاذع المعتاد، أكد تشومسكي أن هذا التغييب يتلوه عملية تجهيل بحيث يكتفي الرأي العام بالسطحيات وبهذا يسهل على السياسيين وصناع الرأي النجاح دون أن يقدموا برنامجاً واضحاً أو أن يستعرضوا إنجازات حقيقية.
نكبتنا أن الوعي الجمعي للفلسطيني ليس عنواناً للحياة السياسية السليمة فحسب بل هو الحاضنة التي اتقدت فيها نار ثورتنا الوطنية والضمان الوحيد لبقاء هويتنا الوطنية بمأمن من التشويه والتخريب. اليوم يغيب علم فلسطين عن مناسباتنا وهناك مساحة سوريالية للنقاش فيما إذا كان النشيد والعلم الوطني الفلسطيني يمثلنا جميعا أم أنهما من مظاهر فكر علماني للبعض الحق في رفضه! اليوم وعينا مرهون بقبيلتنا السياسية وبالقديسين الوهميين من السياسيين الذين خلقتهم آلة الدعاية الحزبية التي استبدلت وعينا بالوطن لهز كتفنا على ألحان نشاز من المزاودة.
وعينا الجمعي بالنكبة يجب أن يتخطى أصنام هذه الذكرى من مفاتيح وبكائيات وهذه مسؤولية جمعية عنوانها النظام السياسي الفلسطيني بكل مكوناته المتناحرة. إما أن تستمر عملية كي وعينا بالجهل وقشور الأمور بالاستكانة إلى الواقع أو أن نثور ونطالب بشطب كل ما اعتدنا عليه من أدوات الكي واستبدالها بالتثقيف والوعي والمعلومات. لنبدأ بمقاطعة حلقات المزاودات السياسية وحفلات الشعارات الرنانة ولنعمل على إزالة الضجيج المشوش ولنزرع بذوراً تعيد لنا جوهر كينونتنا الوطنية. نحن شعب قاد ثورة ساندها العالم لأنها ترتكز على فكرة وتستلهم القوة من المبادئ – حتى لا يأتي يوم قريب ويقول لنا أحدهم "كل عام وأنتم بخير" يوم إحياء النكبة.