السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"معارك ما بين الحروب".. قراءة لاستراتيجية عمل الجيش الإسرائيلي في العقد الأخير

2023-09-07 08:43:05 AM
جيش الاحتلال

 ترجمة - محمد بدر

نشر معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب ورقة تقدير موقف حول استراتيجية "معارك ما بين الحروب" التي يعمل على أساسها الجيش الإسرائيلي منذ عام 2013. وتتضمن الورقة سياقا تاريخيا وتقييما للاستراتيجية وتوصيات، وقد ترجمت صحيفة الحدث، أهم ما ورد فيها:

تعتبر استراتيجية "معارك ما بين الحروب" من أهم الاستراتيجيات القتالية التي عمل على أساسها الجيش الإسرائيلي في العقد الماضي. لقد كان المفهوم الذي نشأ عام 2013 يعني تنفيذ عملية لمرة واحدة ولغرض محدود، وقد تطور إلى حملة واسعة النطاق في الجانب المادي والجغرافي، وأعطي أهمية استراتيجية بعيدة المدى.

لقد أظهرت استراتيجية "معارك ما بين الحروب" القدرات المتقدمة في مجال الاستخبارات والعمليات الجوية، ولكن بعد مرور عقد من الزمن على بدء العمل على أساسها، وفي ضوء التغيرات الكبيرة التي شهدتها المنطقة، فإن المطلوب هو تفكير متجدد ونقاش حول مدى فائدتها وتأثيرها على وضع إسرائيل الإقليمي، وحول خطورة الصراع متعدد الجبهات واستعداد الجيش الإسرائيلي لمثل هذا الصراع.

تتناول هذه الورقة السياق التاريخي لاستراتيجية "معارك ما بين الحروب" في قاموس مفاهيم العمليات لدى الجيش الإسرائيلي، وتطور الاستراتيجية، وإنجازاتها وقيودها، والطريقة التي ينظر بها مختلف الخصوم إليها في كل مرحلة من مراحلها. كما يتم تناول التغييرات الهامة التي حدثت على الساحة والعالم منذ عام 2013. والخلاصة هي أن السياسة الحالية توفر حلاً جزئياً لنشاطات "محور المقاومة" بقيادة إيران، بل وتعزز استعداد الخصوم لخوض المخاطر التي قد تؤدي إلى التصعيد؛ ومن ناحية أخرى، فإن هذه الاستراتيجية قد تضر بجاهزية الجيش لحرب متعددة الجبهات.

لذلك يُوصى بتغيير الاتجاه في نمط العمل: تركيز النشاط العملي وتصميم طرق عمل أخرى لتحقيق أهداف إسرائيل في سوريا ولبنان. إعداد الجيش الإسرائيلي لصراع متعدد الجبهات والتوضيح في الاستعداد والممارسة أن إسرائيل ليست خائفة منه، والعمل على إنشاء تحالفات إقليمية وعالمية من شأنها أن تكون ثقلاً موازناً لقوة إيران الصاعدة في ضوء تعزيز "محور المقاومة" لقوته، وتوثيق علاقته مع روسيا والصين، وبذلك يؤدي التحرك الإسرائيلي إلى تقليص فرص التصعيد، والاستعداد بشكل أفضل في حال حدوثه.

"معارك ما بين الحروب".. استراتيجية العقد الأخير

مع بداية العام 2023، تمر عشر سنوات على الهجوم الأول المنسوب لإسرائيل على الأراضي السورية، ضمن ما سمي بـ "معارك ما بين الحروب" والتي بدأت على شكل بضع هجمات موضعية، كان المقصود منها منع نقل الأسلحة المتقدمة إلى حزب الله، وقد تطورت على مر السنين إلى حملة مستمرة ومكثفة في سوريا والخارج، وأصبحت محور النشاط والاهتمام المركزي في الجيش الإسرائيلي. ومع مرور الوقت، تطورت "معارك ما بين الحروب" إلى ما هو أبعد من أهدافها الأولية: منع حصول حزب الله على أسلحة متطورة، والإضرار بتواجد إيران في سوريا، حيث أصبح لها شكل قتالي جديد ومهم للغاية.

"معارك ما بين الحروب" (مبام) هو الاسم الرسمي في النظام الأمني الإسرائيلي ​​لسلسلة العمليات الهجومية التي نفذتها إسرائيل على الأراضي السورية (بشكل أساسي) وفي أماكن أخرى خلال العقد الماضي. ما بدأ كعمليات لمرة واحدة لمنع نقل الأسلحة المتطورة من سوريا إلى حزب الله في لبنان، تطور إلى حملة واسعة النطاق في الجانب المادي والجغرافي، وتم ترسيخه كمفهوم عسكري استراتيجي، بما في ذلك في وثائق استراتيجية للجيش الإسرائيلي.

ومع ذلك، فإن التغيرات الإقليمية، ومن بينها: استقرار النظام السوري، وذوبان الجليد في العلاقات بين إيران وخصومها القدامى مثل السعودية، واستمرار إبعاد الولايات المتحدة عن المنطقة، تثير التساؤل حول ما إذا كان التأثير الإجمالي لـ"معارك ما بين الحروب" سيكون جيدًا أم لا، وهل ما زال يعمل لصالح إسرائيل، على مستويات تتجاوز الأضرار المادية التي تلحق بالعدو. وكدليل على ذلك، فإن "محور المقاومة" بقيادة إيران يعمل بشكل أوثق من ذي قبل ضد إسرائيل، والذي، وفقًا للتحليل، ساعد توسع العمل ضمن استراتيجية "معارك ما بين الحروب" فعليًا في إنشائه وتعزيزه، إلى درجة حدوث زيادة كبيرة في خطورة المواجهة متعددة الجبهات والمتزامنة مع أعداء مختلفين.

 ورغم أن "معارك ما بين الحروب" أظهرت القدرات الجديدة للجيش الإسرائيلي في مجالات الاستخبارات الدقيقة، والعمل الجوي والسري، والسيبرانية وغيرها، إلا أن دروس الماضي تظهر أن التركيز على هذه القدرات يمكن أن يكون له تأثير سلبي في عدد من المجالات: يحتاج الجيش الإسرائيلي في نطاق عمله ضمن هذه الاستراتيجية إلى وسائل باهظة الثمن ومستوى عالٍ نسبيًا من الاهتمام القيادي، وهو ما يبعده عن مبدأ الحرب الواسعة أو الشاملة.  إن أساليب العمل في "معارك ما بين الحروب" تحتاج قدرات استخباراتية غير محدودة تقريبًا، وقيادة مركزية وفائض من القدرات المخصصة للتنفيذ الدقيق، وهذا يتعارض مع طبيعة القيادة والعمل الذي سيكون مطلوبًا في حرب واسعة، وهناك خوف من أن القيادة والقوات ستواجه صعوبة في التكيف مع ظروف مثل هذه الحرب.

تنقسم الآراء داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية حول تأثير استراتيجية "معارك ما بين الحروب" على استعداد الجيش الإسرائيلي للحرب، وعلى وجه الخصوص الخطوط العريضة للصراع متعدد الجبهات والذي هو الأساس لتصميم الخطة المتعددة السنوات لبناء القوة بقيادة رئيس الأركان اللواء هرتسي هليفي. هناك من يرى أن هذه الاستراتيجية هي حملة ممنهجة لانتزاع القدرات من العدو، مما سيحسن افتتاحية أي حرب قادمة، مستقبلية؛ ويشير آخرون إلى أن "الخطوط الحمراء" التي وضعها الجيش الإسرائيلي، والتي تلتزم بها إسرائيل بصرامة خلال عملها في سياق الاستراتيجية المذكورة، تؤدي إلى تآكل ردعها تجاه العدو (وخاصة حزب الله)، ويزعمون أن أساليب عمليات الجيش الإسرائيلي لا تتماشى بالضرورة مع استعدادات الجيش الإسرائيلي للحرب الشاملة.

العدو تغيّر.. هل الاستراتيجية صالحة باستمرار؟

يعدّ رئيس أركان الجيش السابق غادي أيزنكوت (2015 - 2019) هو مبتكر استراتيجية "معارك ما بين الحروب". آيزنكوت وآخرون قدموا الاستراتيجية على أنها إبداع في عمل الجيش الإسرائيلي، ودليل على تكيفه مع احتياجات عصرنا وتغيير التقسيم التقليدي لعمليات الجيش والتي ترتكز على مبدأي "الروتين" و"الحرب". وفي مقال نشره، ادعى آيزنكوت أن "الجيش الإسرائيلي أحدث تغييرا أساسيا في العمليات الأمنية الإسرائيلية في السنوات الثلاثة عشر الماضية، وهو أحد العوامل الرئيسية في فترة الهدوء النسبي المستمرة على الحدود الشمالية".

الادعاء الثاني في حديث أيزنكوت (الهدوء النسبي في الشمال بفعل معارك ما بين الحروب) سيتم مناقشته لاحقا، لكن الادعاء الأول، بأن الاستراتيجية شكلت تغييرا جوهريا في العمليات الأمنية الإسرائيلية، يستحق الفحص أيضا. ادعى المقدم عيران أورتال، قائد "مركز دادو للتفكير العسكري متعدد التخصصات" - وهو هيئة عسكرية داخلية - أن الاستراتيجية هي شكل جديد في العمل العسكري، وهو شكل حيوي وفعّال، وقد يكون أساس لنظرية أمنية.

شيء من التاريخ

لقد عمل الجيش الإسرائيلي دائمًا بتوجه هجومي، حيث اعتبر الهجوم أفضل دفاع. وينعكس هذا المفهوم في الأنظمة الأمنية الحالية. لقد عبر موشيه ديان، رئيس الأركان في حرب سيناء ووزير الجيش خلال حربي الأيام الستة وتشرين، عن هذه الروح بوضوح: "يُطلق على الجيش الإسرائيلي اسم "جيش الدفاع"، لكنه ليس جيشًا دفاعيًا.. ببساطة: الجيش الإسرائيلي هو جيش هجومي، عدواني بالتأكيد في التفكير والتخطيط والتنفيذ، وهذا في عقله وعظامه وروحه".

وفي سياق العمل ضمن نظرية "الأمن المستمر" (الإجراءات التي يتم تصميمها وتنفيذها في ساحات المواجهة مع العدو للحفاظ على روتين أمني مستقر)، قامت إسرائيل بهجمات متعددة خلال الخمسينيات، كانت ردًا على أعمال المقاومة التي نفذها متسللون من أراضي الأردن ومصر، وكانت بمثابة وسيلة لإبقاء الجاهزية لدى الجيش للتعامل بروح الهجوم. وربطت القيادة العسكرية هذه الهجمات أيضاً بعنصر الردع في مفهوم الأمن، والذي كان يهدف إلى إبعاد الجولة المقبلة من القتال، والتي كانت تعتبر أمراً حتمياً. لقد ارتكز الردع على القوة الواضحة للجيش الإسرائيلي وسياسة العقاب على أعمال المقاومة.

وفي محاضرة ألقاها موشيه ديان أمام ضباط الجيش الإسرائيلي أكد على أهمية "الأعمال الهجومية المركزة كوسيلة لضمان الأمن"، وقد حدد هدفها بعبارة "العقاب والتحذير". وأضاف "إن انتصاراتنا وإخفاقاتنا في المعارك الصغيرة على طول الحدود وما وراءها لها أهمية كبيرة على "الأمن الحالي"، وعلى تقدير العرب لقوة إسرائيل وإيمان إسرائيل بقوتها. إن العرب لن يبتعدوا عن فكرة الصراع إلا إذا شعروا بأن رد الفعل قاس".

إن خصائص العمليات الهجومية المركزة كعنصر أساسي في السياسة الأمنية الحالية، منذ أوائل الخمسينيات وحتى حرب الأيام الستة وحتى بعد ذلك، تذكرنا جدًا بموقف الجيش الإسرائيلي تجاه استراتيجية "معارك ما بين الحروب": روح هجومية ونقل القتال إلى أرض العدو. تفعيل الوحدات المتفوقة لإنجاح العملية وكوسيلة لبناء قدرات الجيش بأكمله استعداداً لحرب مقبلة. خلق ردع لدى العدو المعرض للقدرة العملياتية للجيش الإسرائيلي؛ ومحاولة - معلنة على الأقل - للعمل "تحت عتبة الحرب". كل هذه الأمور من المفترض أن تبقي الحرب المقبلة بعيدة وتمنح إسرائيل وضعا أفضل في حالة حدوثها.

الحرب على القدرات

لقد حاولت إسرائيل، تاريخيا، أن تخلق شرعية معينة لأعمالها الهجومية المركزة، فقد روجت وتروج باستمرار أنها رد فعل على أفعال العدو أو استفزازاته. ولم تقم إسرائيل تقريبًا بمحاولة قوية لتجريد العدو من قدراته، ويرجع ذلك أساسًا إلى أنه كان من الواضح أن مثل هذا الإجراء سيؤدي بالفعل إلى الحرب. الاستثناءات كانت الحالات التي كان فيها احتمال أن يكون العدو مجهزا بسلاح "كسر التعادل"، الذي يفرض نوعا مختلفا من التهديد على الجبهة الداخلية الإسرائيلية. وفي مثل هذه الحالات، كانت الإجراءات المضادة التي اتخذتها إسرائيل سرية، أو عمليات خاصة لمرة واحدة.

المثال البارز الأول كان قضية العلماء الألمان الذين عملوا في مصر في أوائل الستينيات وقاموا بتطوير صواريخ أرض-أرض بعيدة المدى. وعمل الموساد ضدهم بطرق مختلفة، بعضها بالقوة (الأغلفة المتفجرة)، وبعضها عبر عمليات الابتزاز، مثل؛ نشر أخبار عن أنشطة العلماء في وسائل الإعلام في إسرائيل والعالم، كما تم بذل جهود سياسية مع الحكومة الألمانية في هذا السياق. أما في سياق العمليات العسكرية، فقد تم تدمير المفاعل النووي العراقي عام 1981، والمفاعل النووي السوري في 2007.

التغير في موازين القوى والمفاهيم العسكرية

مع مرور الوقت، تغير الوضع الاستراتيجي بشكل جذري. فقد أصبحت حدود إسرائيل آمنة (مصر والأردن)، وفي بلدان أخرى كان هناك حالة من الهدوء التام تقريباً (سوريا حتى عام 2011) وحوادث قليلة نسبياً (لبنان). وتحول أعداء إسرائيل المباشرون من دول وجيوش نظامية إلى مجموعات عسكرية، وتغيرت طبيعة الحرب من كلاسيكية إلى حرب العصابات، وتحولت ساحة القتال تدريجياً من مناطق مفتوحة إلى فضاء حضري.

خلقت الاتجاهات التكنولوجية على كلا الجانبين عدم تناسق أدى إلى تغيير معايير المعركة بشكل كبير. وتتمتع إسرائيل بميزة إلى حد الأحادية المطلقة في القدرات الجوية والاستخبارات والاستهداف الدقيق، وطورت عقائد قتالية متأثرة بـ"المتغيرات في المفاهيم العسكرية". التغييرات التي حدثت في بناء القوة وعملها في الجيش الإسرائيلي في العقود الأخيرة أدت في الواقع إلى بناء القدرة ومفهوم العملية العسكرية، والذي انعكس لاحقًا في "معارك ما بين الحروب": التركيز على الاستخبارات، والتي تتيح ضربات دقيقة وموجهة، والتركيز على العمليات الجوية، والتي تمكن من توسيع نطاق العمل، والدقة في الضرب وتجنب وقوع إصابات في صفوف القوات، والأسلحة الدقيقة.

وبهذا المعنى، عززت عمليات سلاح الجو الاتجاهات التي أصبحت واضحة تدريجياً في عمل الجيش الإسرائيلي بأكمله، بما في ذلك في لبنان وقطاع غزة في القرن الحادي والعشرين: التركيز على العمل الجوي والاستخبارات والعمل السري، والإحجام عن استخدام القوات البرية؛ وهذا يعني أن لا مصلحة لإسرائيل في شن عملية واسعة، وبالتالي تجنب تحديد هزيمة العدو كهدف للقتال، والانحياز لصالح الحلول التكنولوجية.

في الوقت نفسه، وبناء على ذلك، حدث تراجع في مفهوم "عبادة الهجوم" في الجيش الإسرائيلي، وهو مصطلح يعني التركيز على الهجوم في التفكير العسكري، وقد تم استبداله بالتركيز على التدابير المضادة بوسائل متقدمة وتجنب وقوع إصابات قدر الإمكان، وعلى حد تعبير الدكتور آفي كوبر، "لقد أصبحنا أمام عقيدة "عبادة التكنولوجيا" في الجيش الإسرائيلي، والتي تقوم على الاعتقاد بأنه بسبب المخزون غير المسبوق من الأسلحة الدقيقة بعيدة المدى ذات القوة التدميرية الكبيرة، والهيمنة في المعلومات ووسائل جديدة للسيطرة والقيادة، يمكننا من عدم الوصول للمعركة الحقيقية، والقتل دون مواجهة العدو وجهاً لوجه.

وفي الوقت نفسه، هناك "مساحات رمادية" يجري التعامل معها بحسب تعريف باحثي CNAS (مركز أبحاث أمني أمريكي)؛ سواء بالمعنى المادي (المناطق التي لا توجد فيها حكومات حقيقية مثل سوريا منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 2011)، أو في طبيعة العدو (المنظمات العسكرية مثل حزب الله أو حماس). أيضا قد تكون مناطق جغرافية، مثل الضفة الغربية حيث تعمل القوة الرئيسية للجيش الإسرائيلي بشكل يومي. في هذه المنطقة تم استحداث استراتيجية "جز العشب"، وهو مصطلح نشأ في السنوات التي تلت عملية "السور الواقي" عام 2002 ويعني تنفيذ عمليات اعتقالات واسعة بهدف مع إنشاء بنية تحتية للفصائل الفلسطينية.

ووفقاً لإفرايم عنبار وإيتان شامير، فإن "جز العشب" هي "استراتيجية إسرائيل في التعامل مع الصراعات المستمرة المستعصية". وبحسبهم، "ففي مثل هذا الوضع يكون استخدام القوة لا يهدف إلى تحقيق أهداف سياسية مستحيلة، بل إلى الحد قدر الإمكان من قدرة العدو على إلحاق الأذى بإسرائيل". وفي ضوء حقيقة مفادها أنه من الصعب للغاية التأثير على سلوك الجهات الفاعلة من غير الدول، فإن كل ما يمكن لإسرائيل أن تأمل في تحقيقه باستخدام القوة هو الردع المؤقت. ولذلك، تبنت إسرائيل استراتيجية "الاستنزاف الصبور"، والتي كانت تهدف في المقام الأول إلى تدمير قدرات العدو.

ووصف اللواء نيتسان ألون، الرئيس السابق لشعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي، ذلك في مقال كتبه مع دانا فرايزلر على النحو التالي: في الضفة الغربية، تعمل القوات على منع تشكيل الفصائل لبنية تحتية، ولمنع تطوير التهديدات المستقبلية، لخلق الردع وما إلى ذلك. إن عمليات التدابير المضادة و"جز العشب" هي في جوهرها "معارك ما بين الحروب". وبعبارة أخرى، فإن التغير في طبيعة العدو والحرب دفع إسرائيل والجيش الإسرائيلي إلى صياغة تغيير عميق في طريقة العمل والتركيز على بناء العدو للقوة.

الحرب الحاسمة.. والأخرى المستمرة

كل التغيرات التي طرأت على السلوك الأمني الإسرائيلي كان في مقابلها تغير لدى أعدائها. ومع تغير الأعداء أنفسهم (من دول لديها جيش إلى منظمات شبه حكومية ذات نمط عمل هجين) والإمكانيات الجديدة التي انفتحت أمامهم بسبب التقدم التكنولوجي، تم تطوير مفاهيم يمكن اعتبارها أسلحة دفاعية عسكرية خاصة بمواجهة الطبيعة الجديدة للعدو.

مع نهاية التسعينيات، اتجهت معظم الجيوش في الشرق الأوسط إلى صياغة مفهوم قتالي جديد يعتمد على تطوير القدرات، فقد تم تحسين القدرة على البقاء من خلال استخدام التدريع (المخابئ وخاصة الأنفاق)، والتمويه والخداع، وتشتيت القوة العسكرية، والتشويش المتعمد بين المرافق والوسائل العسكرية والمدنية، ومن خلال إدارة الحرب في الفضاء الحضري، وقد تم تعزيز القدرة على البقاء أيضًا من خلال استخدام وسائل حربية منخفضة التأثير (مثل الصواريخ الشخصية ضد الدبابات وضد الطائرات وصواريخ أرض-أرض)، وجرى الاستثمار في القوات البرية (قوات الكوماندو، والمشاة، ومقاتلي حرب العصابات، والقوات شبه العسكرية، والانتحاريين). وفي هذا الإطار تم التركيز بشكل كبير على التعامل مع التفوق الجوي للخصم، من خلال الوسائل النشطة (أنظمة الدفاع الجوي وأنظمة الهجوم). وقد أدى هذا الفهم أيضًا إلى الاستثمار في بناء القوة، والذي تركز على شراء أحدث أنظمة الدفاع الجوي، وتحديث أنظمة الدفاع الجوي الموجودة.

كما وسعت القوى العسكرية بالشرق الأوسط إلى إنشاء قدرة ردع موثوقة، لمنع صراع واسع النطاق، والذي يرى الخصم أنه يتعارض مع مصالحه وقدراته. تهدف قدرة الردع أيضًا إلى القدرة للذهاب إلى الحرب، في حالة فشل الردع الأساسي. تم التركيز على استخدام الأسلحة البالستية ذات المسار الواحد (صواريخ أرض-أرض)، والميزة الكبرى لها هي بساطتها التكنولوجية النسبية، وتكلفتها المنخفضة، وقدرتها على اختراق عمق أراضي الخصم، وقد طورت تكتيكات لمنع تحديد موقع منصات الإطلاق المتعددة.

ذات القوى، وتحديدا قوى المقاومة، انتقلت من استراتيجية المعركة الحاسمة إلى استراتيجية الاستنزاف، والتي تعتبر فعالة بسبب الحساسية للحرب الطويلة والخسائر. ومن وجهة نظر الخصم، فإن مجرد بقاء الصراع هو مفتاح النصر فيه، لعدم قدرة الطرف الآخر على تحقيق نصر واضح لا لبس فيه.

التغيرات التي طرأت على أعداء إسرائيل أدت إلى تطوير مفهوم العمليات، أهمها تهديد الجبهة الداخلية الإسرائيلية بالأسلحة بعيدة المدى والعمليات، فضلا عن لا مركزية قوات العدو واستيعابها بين السكان المدنيين، من أجل تحييد قدرات الجيش الإسرائيلي. يمكن العثور على تعبير عن هذا المفهوم في مقالة فالنسي وبارون: "من الممكن أن يكون للجانب الأدنى من الناحية التكنولوجية التفوق في مجالات أخرى [...] بين الطرفين يمكن أن تكون هناك أيضًا فجوة في درجة حيوية المصالح التي هي محور الصراع، في أهداف الحرب، في درجة الإصرار، في القدرة على الصمود، في الاستعداد لتحمل المخاطر، وفي مستوى الحساسية للخسائر".

خلاصة الأمر: في ظل التغيرات التي طرأت على طبيعة الأطراف، والفجوات الهائلة في القوة التقليدية، والإدراك بأن هزيمة العدو أصبحت صعبة إلى درجة المستحيل، طورت إسرائيل وخصومها مفاهيم متوازية يمكن تسميتها: "معارك ما بين الحروب" و"معارك ما بين الحروب مضادة". وفي مواجهة الرواية الإسرائيلية فيما يتعلق بالإنجازات المادية التي حققتها "معارك ما بين الحروب"، طور الخصم وعيًا مفاده أن الضرر الذي وقع عليه أقل أهمية من التهديد استطاع أن يخلقه. ومن الأمور ذات الصلة بشكل خاص، تأثيرها المعرفي على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، التي لم تعد مستعدة للقتال أو مرنة لحالات الطوارئ.

الجيش و"معارك بين الحروب"

إن استراتيجية "معارك بين الحروب" هي التعبير الأوضح عن القدرات المتقدمة لإسرائيل في الحصول على معلومات استخباراتية دقيقة وتحويلها إلى أساس للعمل العسكري الجراحي. في العقد الماضي، وردت أنباء عن مهاجمة أهداف مختلفة. قوافل الأسلحة التي هبطت في مطار دمشق الدولي، تم مهاجمتها بعناية لضرب الهدف نفسه وتجنب إلحاق الضرر بالعنصر البشري، لأن إيقاع خسائر بشرية يخترق الخطوط الحمراء في قواعد الاشتباك. وساعدت هذه الهجمات على تحقيق الهدف الرئيسي كما هو محدد، وهو الإضرار بقدرات العدو وإفشال مقاصده دون أن تتحول إلى حرب شاملة.

ومع ذلك، في الوقت نفسه، اتسعت الفجوة بين "جيش معارك بين الحروب" و"جيش الحروب". لا يتعلق الأمر بالاستثمار الكبير في الموارد فحسب، بل يتعلق أيضًا باهتمام القيادة الذي انجذب، بطبيعة الحال، إلى استراتيجية "معارك ما بين الحروب". وأصبح لدى القيادة هوس السيطرة الاستخبارية الكاملة، والقدرة على العمل الجراحي، والاعتماد على التدابير المضادة التي لا تنطوي على مخاطر القتال، والتأكيد على عدم وقوع إصابات في صفوف الجيش. وهذا لن يحدث في سيناريو حرب شاملة، والسؤال عما إذا كان الجيش الإسرائيلي وقادته سيتمكنون من التكيف في الوقت المناسب أم لا. ومن المهم الإشارة، إلى أن معظم أسلحة وقوات الجيش الإسرائيلي لا تشارك في استراتيجية "معارك ما بين الحروب". والوحدات التي تشارك صغيرة وقليلة العدد، وهذا الأمر من شأنه أن يفقد الجنود في الوحدات الأخرى، الروح القتالية، وخاصة في ذراع البرية.

وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى كلام الرئيس السابق لشعبة العمليات اللواء نيتسان ألون أن "مزايا استراتيجية "معارك ما بين الحروب" هي أنها تشحذ قدرات عملياتية معينة، وفي ظل ظروف معينة تخلق الخبرة، ومع ذلك، فإن غالبية قوات الدفاع الذاتي التابعة للجيش الإسرائيلي لا تشارك فيها، حيث تشارك مجموعات معينة في القوات الجوية والاستخبارات وهيئة الأركان العامة وقطاعات محددة للغاية في البحرية والبرية. لذلك، يمكن خلق وهم بأن الجيش الإسرائيلي يعمل وينجح ويتحسن ويتعلم، لكن هذا يتعلق فقط بأجزاء محددة جدًا من الجيش الإسرائيلي. ثانيًا، حتى سلاح الجو، الذي يشارك بقوة، فإن اهتمامه وقدراته تتركز منذ سنوات في طبيعة عمليات تختلف عن العمليات التي تنفذ في الحرب الشاملة".

وأخيرًا وربما الأهم من كل شيء، فإن التوجيه (غير المعلن ولكنه واضح من الناحية العملية) لآلية "معارك ما بين الحروب" هو أن أحد أهدافها المهمة هو منع الحرب. وهذا خلق تصورا لدى العدو بأن إسرائيل تخشى الحرب، وكان من الضروري هو الاستعداد للحرب حتى في ظل العمل في سياق الاستراتيجية المذكورة. والرسالة التي يجب أن تصل للعدو أن إسرائيل سوف تنتصر إذا اندلعت الحرب واعتمادها على هذه الاستراتيجية (معارك ما بين الحروب) من منطق قوة وليس ومنطلق ضعف. لكن، من التحليل أعلاه يبدو أنه من المشكوك فيه ما إذا كان سلوك الأطراف اليوم يعبر عن مثل هذه الثقة في نتائج الحرب المحتملة.

توصيات

أولا: هناك حاجة لإعادة التفكير في الاستراتيجية المذكورة وفقا للمتغيرات التي تشهدها المنطقة.

ثانيا: عدم الاستعداد للحرب الشاملة والاكتفاء بالردع الذي تحققه الاستراتيجية المذكورة تصور ضيق يضر بالمفهوم العام للردع.

ثالثا: الاعتقاد بأن الهدف النهائي هو الإضرار بقدرات العدو، هو تصور خاطئ عن طبيعة العدو والمعركة معه.

رابعا: يجب عدم تجاهل رواية العدو فيما يخص فشل الاستراتيجية المذكورة في محاصرة قدراته وأهدافه من التحقيق، وعدم النظر إليها كدعاية مغرضة فقط.

خامسا: هندسة المصالح الاستراتيجية في نطاق أوسع من إنجاح الاستراتيجية المذكورة كهدف نهائي.

سادسا: عدم تجاهل تأثير الاستثمار في الصواريخ الباليستية.