منذ زمنٍ طويل تحولت قضية فلسطين، إلى ملهاة في أيدي المجتمع الدولي والحكام العرب. وكلما انتفض الفلسطينيون، ودفعوا المزيد من دمائهم وأرواحهم و نبّهوا العالم بأننا هنا، يعود الإنتهازيون والمنافقون للتلاعب بقضية شعب فلسطين بطرق وقوالب مختلفة. والإنتهازية والنفاق، باتا ظاهرة ممأسسة، وراسخة في الاقطار منفردة، وفي مؤسسات المجتمع الدولي . والنظام السعودي، الذي شجع الاتفاقات الابراهيمية، والتطبيع، الذي انحدر نحو التحالف الأمني بين إسرائيل وأنظمة الإمارات والبحرين والمغرب وغيرها، منخرطٌ في مفاوضات للتطبيع مع نظام الأبارتهايد الإستعماري، من خلال الادارة الامريكية التي تضغط بقوة لتحقيق اختراق على هذا الصعيد ، ليكون ورقة تفيد جو بايدن في معركته على الرئاسة، وانسجاماً مع صهيونيته. نشهد حالياً عالماً جديداً يتشكل، عالم متعدد الاقطاب. ويذهب المتفائلون، بأن هذا النظام سيكون عوناً للشعوب، ونداً للمعسكر الامبريالي، الغربي، وكأننا نعيش ما قبل انهيار الإتحاد السوفييتي، مع أن قضية فلسطين حظيت بدعم المعسكر الشرقي في حينه، ولكنّ إسرائيل ظلّت في نظر هذا المعسكر ذي الايدلوجية الشيوعية، دولة طبيعية، مما ساعدها في التقدم والتغول في مشروعها الاستعماري الاستيطاني. أما المتفائلون الفلسطينيون، سواء طيبيي النية منهم، أو الأيدلوجيون الغيببيون، فإنهم يجزمون بأنّ قضية فلسطين سيكون وضعها أفضل. لا شك أن عالم متعدد الاقطاب، والذي يستمدُّ زخما من الحرب الغربية الروسية في أكرانيا، أفضل من عالم تحتكر إدارته الامبريالية الامريكية، ولكن ما يجمع المعسكر او المعسكرات الأخرى الناشئة، هو الاقتصاد ومناهضتها للهيمنة الامريكية، و لكنها تفتقر الى مشروع ثقافي وحضاري بديل مختلف جذريا عن النظام النيولبرالي الكولونيالي الامريكي والغربي، ويكون حليف الشعوب ومطالبها بالتحرر والتنمية الشعبية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية.
بات التطبيع السعودي مسألة وقت فقط، وسيكون طعنةً عربية أخرى( من النظام وليس الشعب) للشعب الفلسطيني، وحقه في تقرير مصيره، وخاصة في مسيرته التحررية، التي باتت تبدو للبعض سيزيفية . كل ما يدور الحديث عنه حالياً بين المملكة السعودية، هو الثمن الذي ستقبضه المملكة. ويجري الآن تحضير الرأي العام السعودي حوله، من خلال الأخذ والردّ، مع الامبريالية الامريكية، وإظهار القبول المبدئي حيناً، والرفض والتمنع، حيناً آخر. طبعا نتمنى ألا توافق اسرائيل على شروط المملكة السعودية، حتى لا تتم هذه الصفقة، على حساب آلام الفلسطينيين، وتطلعاتهم بالتحرر والحرية والإمان، وعلى حساب الشعوب العربية قاطبة. وما يؤكد المنحى التطبيعي، هو انتقال سلطة رام الله، من معارضة التطبيع، إلى التسليم بالمسار التطبيعي، التحضيري، الجاري مع إسرائيل، إلى وضع الشروط لهذا التطبيع . وليس من هذه الشروط مطالبة أمريكا واسرائيل بتطبيق المبادرة العربية التي أعلن عنها في بيروت عام ٢٠٠٢، وهي مبادرة سعودية في الأصل، بل تقديم تسهيلات اقتصادية للفلسطينيين، وتخفيف بعض الاجراءات القمعية وغيرها. أي القبول بإدارة الصراع، والهاء الفلسطينيين بهذه التسهيلات، لحين تتحق مصالح الاطراف العربية والدولية. وهذه سياسة سلطة رام الله، ولسان حالها يقول ؛ إذا كنا لا نستطيع وقف مسار معادي للمصلحة الفلسطينية فلنتكيف معه للتقليل من اضراره، مع أن اضرار هذه المعادلة، وكما أثبتت التجربة الفلسطينية التاريخية الرسمية، كارثية في كل المقاييس. من الواضح ، أن التحديات والمخاطر التي تتراكم أمام مسيرة التحرر الفلسطيني هائلة. وكما ذكرنا، تعمل الامبريالية الامريكية بصورة حثيثة على التسريع في دمج الرأسمال الصهيوني في المنطقة، كجزء من إعادة تشييد النظام النيولبرالي الامبريالي، الغربي، الذي يواجه تحديات جدية من الصين، ومن شعوب العالم التي عادت الى سياسات الشارع، وبهدف اعادة تشكيل الوضع الجيوسياسي، وضمان حلف شرق اوسطي ينوب عن تراجع النفوذ الامريكي في هذه المنطقة. و يأتي ذلك في سياق الاسترتيجية الصهيونية لتطويق النضال الفلسطيني، الناهض، وعزل قضية فلسطين عن الشعوب العربية. وتُمثل "الاتفاقات الابراهيمية" تجسيداً للطموح الصهيوني، التوسعي، والذي يرمي الى قمع تطلعات الشعب الفلسطيني إلى الأبد، والتنافس مع كل من تركيا وإيران على قيادة المنطقة، او على الاقل ضمان موقع قيادي فيها.
يدرك الذين يتظاهرون بعودة الاهتمام بالقضية الفلسطينية من خلال إعادة طرح حل الدولتين، سواء من جانب منظمة الامم المتحدة او الاتحاد الاوربي، او حتى حكام السعودية، أن النظام الصهيوني الحالي، بشقيه الحاكم والمعارض، ومعه المجتمع الاسرائيلي الإستيطاني، بات منغلقاً تماما على حل الدولتين، أو حتى على أقل من ذلك بكثير . وإذا حصل وافتتحت مفاوضات في مرحلة قادمة، فإن جُلَّ ما سينتج عن ذلك، كيان مسخ، وليس دولة مستقلة في أي حال من الاحوال في ظل ميزان القوى الحالي . نقول ذلك لأنه لا يوجد نية عند أي طرف من الاطراف، لا الغربية ولا الشرقية، ممارسة الصغط على اسرائيل، أو فرض عقوبات، للانسحاب واقامة دولة مستقلة على جزء صغير من فلسطين. ماذا يعني ذلك. يعني أننا قادمون إلى مرحلة جديدة من التضليل وتضييع الوقت، الذي تواصل اسرائيل الاستفادة منه لترسيخ مشروعها الاستعماري الإستيطاني، مع استمرار حماية اسرائيل من العقاب. وقد تجد هذه الأطراف الخارجية في القيادة الفلسطينية الحالية، أو القادمة بالفرض وبدون إنتحابات، تجاوباً مع هذا التضليل من خلال التذرع بالواقع الدولي الرديئ. لكنّ أمام هذا المشروع التصفوي تنتصب تحديات، بدأت تظهر، منذ اكثر من عقد من الزمان، وتتواصل، على الارض داخل فلسطين، من خلال الهبّات الشعبية وأعمال المقاومة وعودة الوعي بوحدة فلسطين التاريخية. وخارج فلسطين، تتجسد في التحولات في الرأي العام الشعبي الغربي، بما فيه الامريكي، وصدور تقارير من منظمات حقوق انسان دولية، تجرم النظام الصهيوني باعتباره نظام فصل عنصري وجريمة حرب ضد الانسانية، من البحر الى النهر.
إن مواصلة الجهد الامبريالي، الصهيوني، والعربي الرجعي، لتكريس المستعمرة الصهيونية كقوة مهيمنة في المنطقة العربية، تحت ملهاة حل الدولتين، لن يغير اتجاه المسار التحرري الجاري والذي يقول أن لا بديل عن تفكيك هذه المستعمرة ككل وتحقيق التحرر، والعدالة والديمقراطية في فلسطين التاريخية. هو مسار طويل ومعقد، وسيكون زاخر بالآلام والمعاناة، لكن هذا ما تمثله العدالة الانسانية، وهذا ما يجب أن يحشد حوله الفلسطينيون كل ما لديهم من قوة وطاقة.