يشير المفكر الفلسطيني فيصل دراج، في العديد من كتابته، إلى شكل السياسة الفلسطينية التي ينفي عنها السياسة في ممارستها. فبالنسبة له، تقوض الممارسة السياسية الفلسطينية معنى "السياسي" الذي يجب أن يكون مهموماً بقضية وطنية تحررية بدل أن يكون مأخوذا بالتفكير في مصيره الذاتي، إذ يصبح حينها "السياسي"، في عرف دراج، "لا سياسيا". ومثل السياسي عند دراج مثله عند بيركليس الذي حدده في خطبته الشهيرة عندما رثى شهداء الحرب التي قامت بين أثينا وإسبرطة قائلاً: "نحن لا نرى أيّ رجل عازف عن الاهتمام بالسياسة رجلا مهتما بشأنه الخاص، بل نرى أن ليس له أي عمل بالمطلق هنا." وفي مقابل اللاسياسي، الذي يطرحه دراج وبيركليس، هناك نمط من السياسة الفلسطينية التي تعيد تعريف مجمل ما هو سياسي. والتي ستُخرج التعريفات المستقرة في العلوم السياسة الغربية عن معانيها بما هي علاقة "الحكام بالمحكومين" أو "إدارة الدول" أو "فن الممكن". سنكون أمام سياسة فلسطينية معرفة، إذا ما فهمنا مقولة دراج تحديدا، بالفعل الذي يعلن موقفا منسجما مع الهم الوطني كقضية كبرى. عندها، سيكون الفعل السياسي موزعا على نمطين من السياسة: أحدهما "سياسي" لا يمارس السياسة، والآخر "لا سياسي" يمارس السياسة.
سنكون أمام علاقة غريبة نسبيا في معنى السياسة والسياسي، فالسياسي لا -سياسي، بينما اللا-سياسي هو سياسي. إنها تقريبا تشبه تلك المقاربة بين الكاتب الذي لم يعد يكتب، فبعد أن عُرِف وعُرِّف بأنه كاتب توقف عن الكتابة. وهناك ذلك الكاتب الذي يكتب ويستمر في الكتابة دون توقف ولم يُعرَّف أو يُعتَرف به ككاتب بعد، غير أن أهمية ما يكتبه قد لا تقل أهمية عن الكاتب المعترف به. إنها تقترب من حكاية كافكا، الذي لم يُعترف به كاتبا في حياته. وقد كان كافكا يكتب بشكل متواصل ويمزق أو يحرق ما يكتبه، لدرجة أنه يذاع عنه أن ما أحرقه مما كتبه يتجاوز ما وصل إلينا اليوم من كتاباته. ولعل في ذلك شيء من الصحة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تلك المقولة المنقولة عنه: "سوف أكتب رغم كل شيء، سوف أكتب على أي حال، إنه كفاحي من أجل المحافظة على الذات".
سنأخذ من مقولة كافكا تلك مسألة مهمة وهي الفعل الذي يبتغي المحافظة على الذات بما هي غاية قصوى. وهي الغاية التي ترتد عميقاً داخل النفس البشرية لتُكوّن الحق الإنساني الأول والأصيل، ولتصير شاغل المفكرين منذ سقراط وحتى يومنا هذا، والتي ستشهد قفزتها الأكثر تأثيرا في عصر التنوير، من خلال جهود إنصبت على فهم شكل العلاقات الاجتماعية والسياسية ونشأة الدول. وسيكون الفيلسوف البريطاني توماس هوبز عراب التنظير الفلسفي لاعتبار الحفاظ على الذات هو سبب كل الشرور، وهو في آن، سبب الدخول في حالة تعاقدية ممكنة تنشأ منها المجتمعات وتنتظم الدول. وكي تنشأ تلك المعادلة المتوازنة بين الذاتي/ الخاص والموضوعي/ العام، سيتخلق ذلك الوحش الأسطوري "الليفيثان"، التنين، أو في ترجمة عربية للمصطلح بكلمة "الطاغوت". سيكون هذا "الطاغوت" خارج العقد الاجتماعي، وسيكون فوق القانون، ولا يكون الحاكم في هذا النموذج المخيف، جزءا من هذا العقد، بل سيكون صاحب سيادة مطلقة.
وإذا ما ارتبط مصطلح "الليفيثان" في الإرث الثقافي الغربي بكائن ميتافيزيقي، فإن هذا الكائن لن يظل خارج السيطرة. إذ سيتم التدرج في ترويضه وإخضاعه فكريا ومعرفيا، مثلما تم التدرج في فك العلاقة ما بين العلم والماورائيات، حتى لا يتجاوز هذا الكائن المخيف حالياً معنى "السمكة" أو "الحوت"، الذي يمكن أن يقع فريسة عملية صيد محكمة، فتحدث عملية تبادل الأدوار بين الصياد والتنين، فتبرز الحاجة إلى خلق التوازن من جديد، فيتم إدخال التنين إلى حلقة التعاقد البشرية.
عربياً، يرتبط مصطلح "الطاغوت" أحياناً بكائن ما ورائي، وفي أحيانٍ أخرى، بكائن بشري، فهو إما الشيطان وإما الحاكم الجائر. وهو كل ما سيتجاوز الحد. ولعل العالم الكبير إبن قيم الجوزية كان من أوائل من عرفوا هذا الكائن بوصفه الطاغي المعتدي أو كثير الطغيان، وكل رأس في الضلال يصرف عن طريق الخير، و يطلق أيضاً على الشيطان، والكاهن، والساحر، وكل ما عبد من دون الله من الجن والإنس والأصنام، وبيت الصنم. والطاغوت يطلق على المذكر والمؤنث على حد سواء ويستوي فيه الواحد وغيره.
ولعل المثير في تعريف إبن القيم هو تلك الإشارة إلى أن الطاغوت قد يكون متمثلاً في شخص أو قد يكون أكثر، أي أنه قد يكون منظومة متكاملة تُحافظ على ضخ الدماء في المنظومة الطاغوتية. ويتلاءم تعريف الطاغوت مع الطغيان الذي تعيشه المجتمعات العربية كافة، بما هي مجتمعات تمارس فيها السياسة وفق مبدأ اللا-سياسة، لأنها ستكون مشغولة في المقام الأول بمبدأ المحافظة على الذات. ستعزل تلك المنظومة نفسها تماما عن الهم الوطني، وقضايا الأوطان الكبرى والصغرى. فتتحقق مقولة ميكافيللي الشهيرة بأن "هنالك تفاوتا ما بين فكر القصر وفكر الساحة العمومية"، وعندما يقع هذا التفاوت سنجد أن الانشغال بالحفاظ على الذات سيتحقق عبر نهج بث الخوف وعبر التخويف. في مقابلة صحفية مع الفيلسوف الفرنسي ميشيل مافزولي، ترجمها إلى العربية المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العلي، يقول مافزولي: "عندما يكون هناك انزياح، فإن ما أدعوه أنا النخب- وأعني مَن لهم سلطة القول والفعل، أي الساسة والصحافيون والخبراء، مَن نشاهدهم كل يوم على شاشات التلفزيون- هذه الأوليغارشية الصحافية السياسية، تظل متشبثة بالقيم التي هي في طريق الزوال. هذا ما حدد السياسات القائمة. أما الصحافة فهي تنقل ما أملاه عليها السياسي. وعندما توشك نخبة على الضياع، فإنها تنهج ما أدعوه "التسيير عن طريق التخويف".
لقد عاشت المجتمعات العربية كافة، تحت سطوة الخوف، تُساسُ به. لكن هذا الخوف الذي يحقق الطغيان، قد خلق النمط الآخر من السياسة التي توصف بأنها لا سياسية والتي لا ولم يُعترف بها، لكنها في حقيقتها هي السياسة الحقة، المحتضنة شعبيا، التي تفلتُ من مفهوم السياسي المتكلس، وتمارس سياسية حيوية في البقاء، بقاء الأوطان والشعوب.