حراك الضفة الخجول بين “هراوة” الأمن وقفص الرواتب
إعداد: محمود الفطافطة
قد لا يخلو حديث فلسطينيَن اثنين أو أكثر عن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلا وللسلطة الفلسطينية وقيادتها نصيبٌ منه. هذا الحديث الذي يأخذ صوراً شتى من الهمس واللمز والتصريح إلى حد الإساءة، يتمحور حول طبيعة تعامل السلطة مع مجريات هذا العدوان ومدى مسؤوليتها في تأييد المقاومة والتضامن مع أولئك الذين يتعرضون إلى “إبادة جماعية” في أعظم الشهور عند الله.
هذه المسؤولية يراها البعض مجسدة في وجوب قيام السلطة بالسماح لأبناء الضفة الغربية بالتعبير عن تضامنهم ومناصرتهم لأهلهم في القطاع، عبر تنظيم مسيرات سلمية وإطلاق مظاهرات تصطدم مع جنود الاحتلال، لا سيما في مناطق التماس المحيطة بالمدن، أو عبر الحواجز المترامية على أطراف القرى والبلدات.
أمن، كاريزما، ومال
مثل هؤلاء يرون أن المعيق الرئيس في تحقيق هذا الواجب يتمثل في منع الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة بالسماح في إعلاء صوت المناصرة والرفض للعدوان الإسرائيلي من خلال عدم تمكين المتظاهرين للوصول إلى مناطق التماس، فضلاً عن اعتقال البعض منهم. في مقابل ذلك يرى آخرون أن هذه اللامبالاة ناجمة من أسباب أخرى متعلقة بأبعادٍ سياسية واجتماعية واقتصادية، في حين نجد فريقٌ ثالث ينفي وجود هذه اللامبالاة ويؤكد على وجود حراك شعبي يمتد يوماً بعد آخر في مناطق شتى من الضفة وإن لم يكن يحظى بتسليط وسائل الإعلام عليه.
وفي خضم هذا المشهد، سيجيب التقرير عن جملة أسئلة من شأنها توضيح وتقريب الصورة الكلية للموضوع، من حيث مضمون الحالة وأسبابها وأبعادها والسيناريوهات المحتملة لها. أهم هذه الأسئلة: ما هو الوصف القريب إلى الواقع؟ هل هو وجود لا مبالاة في الضفة إزاء ما يجري في القطاع، أم هنالك حراك لم يأخذ حقه من التجذير والانتشار والاهتمام الإعلامي؟ وكذلك، ما هي أسباب هذه اللامبالاة في حال كانت هي المسيطرة على المشهد؟ وأيضاً، ما هي أبعاد الواقع الفلسطيني الراهن في الضفة على مجريات الحرب وسيناريوهات نتائجها المحتملة؟
يقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في جنين د. أيمن يوسف، إن الأسباب الرئيسة وراء “التكلس” أو الفتور في الحراك بالضفة مردة عوامل عدة، أهمها: الانقسام الداخلي الذي ببقائه لا يمكن لأي “نصر” ميداني أن يحقق انتصاراً سياسياً مطلوباً، وعدم وجود منظمات مجتمع مدني وأحزاب سياسية مؤهلة لقيادة الجماهير، وفقدان شخصية كاريزماتية تاريخية تلهب مشاعر الشعب، كحالة الراحل أبو عمار على سبيل المثال، إلى جانب التنسيق الأمني مع إسرائيل وما يفرضه على السلطة من قيود والتزامات، فضلاً عن الوضع الاقتصادي المتردي بما يحمله من قلقٍ معيشي وارتباط بقروضٍ للبنوك وسواها، علاوة على حدوث الحرب على غزة في فترة فيها كثير من الناس لديهم مشاغل واهتمامات أخرى، وهي فترة شهر رمضان الكريم والصيف.
الإرهاق و”فوبيا الفوضى”!
هذه اللامبالاة برأي د. يوسف، يرجع سببها الصحفي نبهان خريشة إلى الإرهاق الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الضاغط على الفلسطينيين منذ سنوات طويلة، إضافة إلى أن نقاط المواجهة مع جنود الاحتلال، بعيدة عن مركز التجمعات، فضلاً عن منع أجهزة السلطة الأمنية للمتضامنين أو المتظاهرين من الوصول إلى نقاط المواجهة، وإن كانت لا تستخدم العنف بحقهم (وفق خريشة).
وما بين اللامبالاة والإرهاق الذي صنعها (حسب يوسف وخريشة) نجد المحلل السياسي د. سعيد عياد، لا يعتقد بوجود لا مبالاة في الضفة، موضحاً أن الموجود هو تشويش سياسي وحزبي على الواقع السياسي الفلسطيني، وأن روح الانقسام والكره الحزبي لا يزالان يسودان الوعي الجمعي، وبالتالي تتشتت المواقف ويتواصل الضعف. وينوه إلى أن هناك غضباً فلسطينياً يتأجج لدى المواطنين بسبب الموقف الضبابي للمستوى الرسمي الفلسطيني، وأن هذا الغضب سيتحول إلى سلوك رافض للسلطة عموماً. ويبين أنه إذا لم تلتزم السلطة بتحويل نتائج العدوان لقوة سياسية وإستراتيجية، فإن الفشل السياسي سيبقى مستمراً، لافتاً النظر إلى أنه من أبسط قواعد إدارة الواقع السياسي الفلسطيني، أن يستثمر المخالف السياسي ما يجري لصالحه سياسياً واستراتيجياً حتى وإن كان يعارضه.
وقريب من رأي د. عياد يقول الكاتب سري سمور، إنه لا يمكن القول أو الجزم بأن هناك لا مبالاة تامة، هناك تفاعل قليل في مناطق معينة، والسبب أن الناس تخاف من ثنائية تدهور الوضع الاقتصادي والفوضى والفلتان الأمني، منوهاً إلى أن أسباب الفتور تكمن في سيف الأمن المسلط على رقاب الناس، ويمنعهم من التضامن وحرارة الاهتمام، سواء فيما يخص غزة أو الأسرى في بعض الأحيان، إلى جانب محدودية مناطق التماس مع الاحتلال.
الكاتب صلاح حميدة يعلل، إلى حد ما، رأي عياد وسمور، فيقول: “الشعوب لا تثور مرة واحدة، و ما يجري الآن هو هبات واشتباكات في مناطق تماس تحدث طوال ساعات الليل وبعض ساعات النهار، يقومون بها شبان أغلبهم لا ينتمي للتنظيمات، وهذه أكثر فاعلية من المسيرات الفولكلورية وسط المدن، موضحاً أن هذه الفعاليات ترعب الاحتلال أكثر، وهي منتشرة وفعالة بشكل ممتاز، ولكنها تفتقر للتغطية الإعلامية، لأنها تفضل العمل على الكاميرا.
فصائل ومؤسسات.. غيبوبة واحتواء
ويضيف: “الحراك الشعبي في تصاعد، وأداء المقاومة على الأرض هو الذي سيحدد اتجاهاته، فإن فتكت المقاومة بجنود الاحتلال وأسرت بعضهم فإن هذا سيفجر الأوضاع بطريقةٍ لن يتخيلها أحد”. ويذكر حميدة أن اللامبالاة العامة، خاصة من قبل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، مردها عدة أسباب، أهمها: سيطرة السلطة على وسط المدن ومنعها الكتلة البشرية الكبرى من التحرك، وقمعها للنشطاء الذين يحركون الشارع، واعتقال الاحتلال لغالبية العناصر الفاعلة في حركة حماس صاحبة التأثير في الشارع في الفترة الأخيرة.
بدوره يذكر الإعلامي محمود حريبات، أن السبب الرئيس لهذه اللامبالاة هو غياب الدور الحقيقي لفصائل منظمة التحرير، والتي أصبحت ليس لها دور حقيقي في الشارع، وابتعادها كل البعد عن توعية وتعبئة الجماهير والدعوة للحشد والتوجيه، منوهاً إلى أن دور هذه الأحزاب يقتصر على إصدار بيانات الشجب والاستنكار وإحياء ذكرى انطلاقاتها.
ما يذهب إليه حريبات يؤكده المحلل السياسي خليل شاهين، الذي ينتقد هذه الفصائل لتراجع دورها في الفعل الوطني، وفتورها في المبادرة بتنظيم وتفعيل العمل الشعبي والمواجهة مع الاحتلال، سيما في بؤر التماس أو في مناطق الجدار والحواجز. ويدعو شاهين إلى مقاومة شعبية وسياسية، وبالتوازي، ضد الاحتلال لتشتيت جهوده وإضعافها خاصة في ظل حربه الدموية على قطاع غزة.
في نفس الإطار يؤكد د. يوسف أن واقع الأحزاب الفلسطينية من حيث العمل الوطني والمقاوم، مترهل إلى حد الضمور ولا يناسب، إطلاقاً، تاريخ هذه الأحزاب أو واقع القضية الفلسطينية وصراع أبنائها مع الاحتلال، منوهاً إلى أن هذه الأحزاب عاجزة عن خلق “حالة حراكية” لمواجهة الاحتلال وذلك لأسباب، أهمها: الصراع والتنافس على المناصب القيادية، سيما في أحزاب اليسار، واحتواء المال الأجنبي لها من خلال إطار منظمات المجتمع المدني، فضلاً عن فشلها في تجديد أو إثراء وعيها الفكري ارتباطاً بالواقع الوطني والسياسي.
الثالوث المتناقض!
ويبين د. أيمن أن هناك ثلاث جهات أو أطراف تريد أو تسعى لخلق حالة حراك وطني أو انتفاضة شعبية في الضفة الغربية، منها ما يحمل أهداف وطنية سامية، وأخرى عكس ذلك. هذه الأطراف (وفق د. يوسف) تتمثل في: وطنيين حقيقيين يرون أن المسار السياسي يجب أن يوازي ويتوازن مع فعل مقاوم على الأرض، وطرف “فوضويين” و”زعران” يهدفون إلى خلخلة الواقع لتصفية حسابات أو تحقيق منافع شخصية وفئوية، إلى جانب الفئة الثالثة والممثلة بانتهازيين من سياسيين ومثقفين يسعون إلى منصب هنا أو إلى فضائية تبرزهم وتشهرهم هناك.
وبالعودة إلى السلطة الوطنية، يقول شاهين إن المشكلة تكمن في القيادة الفلسطينية وعدم تبنيها ودعمها الحراك الشعبي والمقاومة، مشيراً إلى أن الحراك الدبلوماسي والسياسي التي تقوم به السلطة مهم ومطلوب، ولكنه لن يجدي كثيراً في ظل بقاء الاحتقان والانقسام والتجاذبات المختلفة. أما د. يوسف، فيرى أن السلطة تتخوف كثيراً من حدوث فوضى، وليس انتفاضة شعبية في الضفة الغربية، مؤكداً أنه يتوجب على السلطة توظيف ما يحدث في غزة في تقوية مسارها السياسي لأنه (والكلام ليوسف) لا يمكن الحصول على أي انتصار سياسي للعدوان على غزة، طالما يوجد غياب للوحدة السياسية، وتغييب للسعي الجاد في توظيف المقاومة في ذلك. ويطالب بضرورة أن تقوم السلطة بالسماح للجمهور الفلسطيني بالتعبير عما يجري في القطاع، وإن كان مقتنعاً بعدم حدوث انتفاضة شاملة للأسباب التي طرحها سابقاً.
شرنقة أوسلو وصراع المشاريع!
من جانبه يؤكد الكاتب السياسي د. مجدي عيسى، أن تكلس الحراك إلى حد “الموات”، مبعثه وجود سلطة مرتبطة باتفاقات أوسلو التي خلقت حالة من ثقافة التسوية القائمة على الخمول ورفض المقاومة من حيث المبدأ، مطالباً بضرورة أن تستمع السلطة إلى صوت ومشاعر وضمير الناس، وأن تكون سياستها على مستوى الدم المسفوك في القطاع.
الباحث محمد أبو عرة، يؤكد على ما ذكره عيسى، يذكر فيقول: “إن السبب وراء هذه اللامبالاة، يكمن في السياسات التي اتبعتها السلطة في السنوات الأخيرة، وبث حالة اليأس من أي مقاومة ممكنة، إضافة إلى الملاحقة الأمنية من قبل السلطة للشبان، عدا عن الانشغالات الاقتصادية التي أثقلت كاهل الناس، مثل القروض والرواتب والبيوت والسيارات، التي أصبحت أولوية قصوى لدى المواطن في الضفة”.
المواطن هاشم حمارشة، يُرجع سبب اللامبالاة إلى شعور عدد كبير من الناس في الضفة، بصدع نفسي ووجداني كبيرين بسبب الانقسام الجغرافي والسياسي بين الضفة وغزة، إلى جانب ظهور مؤشرات لوجود انقسام فعلي، واختلاف سياسي كبير بخصوص التفاهم حول العلاقة، والجدوى بين المقاومة السلمية والمسلحة بالرغم من المصالحة الوطنية مؤخراً.
الصحفي منتصر حمدان يحمل “حماس” المسؤولية، فيقول: “قيادة الحركة في غزة هي التي تتحمل المسؤولية في لا مبالاة الضفة، لأنها أهملت أنصارها في الضفة لحساب أنصارها في القطاع”. هذا التقصير كان سبباً رئيساً (وفق حمدان) في إضعاف التأثير الشعبي لأن قوة حماس في الضفة تم تحييدها. ويطالب بضرورة أن تدعو الفصائل الفلسطينية ومنظمات المجتمع المدني إلى استنفار شعبي عام، عبر إقامة اعتصامات في كافة محافظات الضفة، للتنديد بجرائم الاحتلال ضد أبناء أهلنا في القطاع.
حراك الكتروني وشرر داخلي
أما الإعلامي والباحث خالد معالي، فيرى أن الأمر يتعلق بالإحباط الذي سببته سياسات السلطة القائمة، على اعتبار عدم جدوى المقاومة وملاحقتها، وهو ما أحدث فجوة كبيرة من الصعب إنهاؤها بسرعة، منوهاً إلى أن الحل يكون بإعادة بث روح المقاومة من جديد من قبل قيادات حرة في السلطة، وكذلك وقف التنسيق الأمني للضغط على الاحتلال.
في الصدد ذاته يقول الكاتب السياسي علاء الريماوي: “التوجهات المجتمعية لا يمكن قياسها من خلال التعبيرات الصاخبة، حيث أن هناك حالة شعبية متفاعلة مع غزة، وحالة مساندة بشكل كبير ومتعاطفة وناقدة للسلطة الفلسطينية وحتى لفتح من قبل المناصرين لهم، منوهاً إلى أن هناك اهتماماً غير مسبوق في وسائط التشارك الاجتماعي بشأن العدوان على غزة، في بعضه ينجح في تسيير وتنظيم بعض المظاهرات والفعاليات”.
ويبين أن الحيلولة دون تحول حالة التعاطف مع غزة إلى حراك عام وشامل يكمن في: “دور فتح والسلطة السلبي والمانع لموجة تفاعل من خلال مواقف يمكن رصدها على الأرض، وغياب القيادات الفاعلة من حماس، والمعتقلة لدى الاحتلال في معظمها. ويرى بأن الأمور قد تتوسع، ولكن قد لا تبقى موجهه ضد الاحتلال فقط، وإنما قد يُصيب السلطة شررها كذلك”.
قفص الالتزامات والقروض
يقول المواطن منتصر نصار: “أعتقد أن تخوف المواطن من قمع الأجهزة الأمنية لمسيرات التضامن مع الأهل في غزة، سبب مباشر في لامبالاتهم، إضافة للموقف الرسمي الهزيل”. ويضيف: “حال المواطن يقول، إذا كانت القيادة غير آبهة بما يجري في القطاع، ماذا بإمكاننا أن نفعل نحن”!، منوهاً إلى أن الوضع الاقتصادي الصعب جعل المواطنين منشغلين أكثر في الإيفاء بالالتزامات المترتبة عليهم والمتزامنة مع بداية شهر رمضان الفضيل.
عامر هليل طالب جامعي، يقول: “باعتقادي أن سياسة التخدير الممنهجة التي تسير السلطة خلّفها هي الدافع الأساسي، بل السبب المباشر في عدم تحرك مدن الضفة نُصّرة لإخوانهم في غزة، حيث أن المواطن بات همّه الأول والأخير، توفير قوت يومه وإراحة بدنه من العمل الذي أثقل كاهله، دون الالتفات لأحداث غزة أو النزول للشارع”. ويشير إلى أن السلطة اتبعت سياسة القمع بداعي الحفاظ على حياة الجماهير التي تصل لنقاط التماس مع جنود العدو، فضلاً عن عامل خوف الناس من الاعتقال وعدم حب التضحية كما كانت في السابق.
ويقول الكاتب محمد جابر: “إن عدم الثقة بالسلطة، واستخدام القوة ضد المتظاهرين والمحتجين، والانقطاع الجغرافي بين الضفة والقطاع، والأوضاع الاقتصادية الصعبة للناس، وتكبيلهم بالقروض والرواتب، هي عوامل أساسية لفتور الحراك في الضفة الغربية”. أما المواطن محمد نعمان فيقول: “القيادة الفلسطينية ليست معنية بإشعال مواجهة وخلافات مع إسرائيل خشية من سقوط ضحايا آخرين، وإن تجليات وذكريات الانتفاضة الثانية التي لم تحقق المطلوب، ما زالت تؤثر تأثيراً ملموساً على العقلية الفلسطينية.