عملية الكوماندوز الفدائية التي قامت بها كتائب القسام التابعة لحركة حماس، وما خلفته من نتائج ميدانية بالسيطرة لساعات طويلة على مراكز عسكرية بعضها مواقع قيادية، وعلى تجمعات سكنية ومراكز شرطية، تمكن المقاتلون خلالها من قتل أكثر من ثمانمائة من قادة وأفراد جيش الاحتلال والمستوطنين في غلاف غزة، وإصابة ما يزيد على الألفين وخمسمائة جريح بعضهم في حالة الخطر، وأسر حوالي 130 أسيرا معظمهم من جنود الاحتلال، وذلك كله وفق إعلانات جيش الاحتلال نفسه، في وقت أن عمليات الكوماندوز الفدائية تلك ما زالت تواصل هجماتها وتخوض قتالاً شرساً في عدد من المواقع داخل الغلاف.
هذه العملية، وفي مقابلها إعلان إسرائيل عن حالة الحرب، فتحت أسئلة استراتيجية على كافة الأصعدة الإسرائيلية والعربية والدولية ومكانة القضية الفلسطينية، ومستقبل الصراع، بما في ذلك مستقبل الأوضاع الداخلية الفلسطينية.
فإسرائيل التي أفاقت صباح يوم السبت على مفاجأة كارثة الفشل الاستراتيجي الاستخباراتي والأمني والعسكري والسياسي تعتبر أن ما حدث غير مسبوق منذ نشأتها على أنقاض نكبة الفلسطينيين، وما زالت تعيش حالة صدمة شاملة، وارتباك غير مسبوق في الأداء السياسي والميداني والشعور بالهزيمة. ذلك كله أعاد خلط الأوراق الداخلية الإسرائيلية، فزعيما المعارضة لبيد وغانتس أعلنا استعدادهما للانضمام لحكومة طوارئ وتشكيل مجلس حرب، لشعورهما بأن ما حدث أطاح بصورة عميقة في قدرة الردع الإسرائيلية والحاجة لترميمها، وتأجيل خلافاتهم الداخلية لما بعد إنجاز تلك الأولوية لدولة الجيش" الذي طالما اعتبروه لا يقهر. في الأثناء تبرز أصوات غير قليلة تُحمِّل نتانياهو مسؤولية الكارثة الاستراتيجية التي تمثلت بترك حماس تبني قوتها الضاربة، تحت شعار تمكين حماس من إبقاء سيطرتها على القطاع، وتعزيز انقسام الكيانية الفلسطينية لوأد أية إمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة يُجمع عليها الفلسطينيون والعالم وإن بدرجات متفاوتة.
إسرائيل ورغم هذه التباينات العميقة، والمطالبة بلجان تحقيق على غرار "لجنة أجرانات" بعد حرب أكتوبر 1973، التي أطاحت برئيس هيئة الأركان ولاحقاً بجولدا مائير ذاتها، فإن مكونات المجتمع الإسرائيلي تُعلي شعار " لا صوت يعلو على حرب الانتقام" من الشعب الفلسطيني، وخاصة من أهلنا في القطاع، تحت غطاء تصفية القدرات العسكرية لحركة حماس، وهي تعد العدة لحرب برية تستطيع إسرائيل مدعومة من الولايات المتحدة والدول الأوروبية أن تبدأها ربما في الساعات القادمة، ولكنها قد لا تستطيع أن تحدد مسارها ونهايتها سوى بارتكاب المجازر الدموية التي بدأت بقصف غير مسبوق للبنية التحتية والبيوت السكنية والمنشآت المدنية يذهب كل دقيقة فيها ضحايا من المدنيين الأبرياء، وهي مرشحة بمضاعفات هائلة في حجمها وأعدادها في ظل الاجتياح البري الذي يعد له بموافقة أمريكية كشف عنها بلينكن بأنها قد تبدأ خلال يومين. فالجيش الذي يشعر بالهزيمة مدعوماً بالانحياز الدولي لن يأبه تبعات ارتكاب جرائم ابادة وجرائم ضد الإنسانية.
اندلاع هذه الحرب يشكل عنوان فشل للجميع، أولاً لإسرائيل التي سبق وقررت إنكار وجود الشعب الفلسطيني وتسير بسرعة الريح لتصفية قضيته وحقوقه، وثانياً لنفاق المجتمع الدولي وازدواجية معاييره، والذي ترك إسرائيل تمارس غطرستها دون رادع حتى وقعت إسرائيل ذاتها في شراك هذه الغطرسة، وثالثاً للدول العربية التي وقعت فريسة الرؤية الإسرائيلية باستحالة التوصل لحل ينهي الاحتلال في المدى المنظور ، وأن الأولوية لاستقرار المنطقة، حتى لو كان على حساب الشعب الفلسطيني الذي يترك وحيداً يغلي في مرجل عنصرية الحكومة الفاشية والحكومات التي سبقتها، دون إدراك أن هذا الغليان سيؤدي حتماً للانفجار الذي شهدناه في مختلف مدن الضفة الغربية وصولاً للانفجار الكبير في غزة. كما أن هذه الحرب تشكل عنوان فشل فلسطيني لجهة عدم التعامل الجدي مع طبيعة وحجم المخاطر الاستراتيجية التي تتعرض لها القضية الفلسطينية، وإشاحة النظر عن الأولوية العليا لمواجهته باستعادة وحدة المؤسسات الوطنية الجامعة، وتصليب الجبهة الداخلية وتوحيد استراتيجية عملها، وليس الاستمرار في الرهان على سياسة الولايات المتحدة بالرغم من انحيازها المطلق ليس فقط لإسرائيل، بل ولعدوانيتها على شعبنا وحقوقه الوطنية.
صحيح أن هذا الإنجاز الذي حققته عملية القسام النوعية قد وضعت حماس في موقع القوة في وسط عالم لا يعترف سوى بالأقوياء، إلا أن ذلك يضعها مجدداً أمام مفترق طرق خطير . فاذا كانت أهداف حماس إنهاء الاحتلال فهذا الأمر لن تحققه مواجهة غزة لوحدها، بل لا يمكن تحقيقه بعيداً عن وحدة وطنية راسخة وهذا ما أشارت إليه كلمات محمد ضيف وصالح العاروري عندما دعا الشعب الفلسطيني في كل مكان، وخاصة في الضفة الغربية لملاقاة جيش الاحتلال ومستوطنيه، وكلاهما يعلم أن مدى فاعلية ذلك يتوقف على الوحدة وإعادة الأمل التي أعادت "طوفان الأقصى" بعضاً منه سيما في زمن الوهن والانكسارات، ولكنها تحتاج لأدوات وحدة راسخة، كان وما زال على قيادة حركة حماس أن تجدد التزامها بها والدعوة لها. هذا الأمر ينطبق بصورة أكبر على قيادة المنظمة والسلطة التي ظهرت كطرف هامشي، وكما يقولون "في نهاية الحرب فإن الحديث عن شروط وقفها، يتم فقط بين أطرافها". فهل ستستمر قيادة السلطة خارج هذه الأطراف؟ أم عليها أن تتحلى بالشجاعة وتغيير المسار وإعطاء الأولوية للوحدة، التي بالتأكيد أن حركة حماس تحتاجها، وعليها أن لا تقع في فخ تغليب الشعور بالنصر على الحاجة للانتصار بالوحدة. وعلى المجتمع الدولي الذي طالما أعاق هذه الوحدة أن يدرك أن غياب الوحدة الفلسطينية وبما يشمل حركتي حماس والجهاد، وضعهما في زاوية ضيقة ليس أمامهما سوى محاولة الخروج منها، وكسر شروط اللعبة التي أرادت خنقهما كفريسة للعدوانية الإسرائيلية وسياسة العصا والجزرة وتعزيز الانقسام تحت سيطرتها في سياق استراتيجية التصفية.
هذه الحرب فتحت أسئلة كبرى حول مستقبل الصراع في المنطقة والطابع الجيوسياسي فيها، كما أن هناك الكثير من الأسئلة الداخلية التي يجب أن تطرح، ولكن هذا ليس وقت الدخول فيها ولا يتسع لها هذا المقال. فالعدوان والحرب على شعبنا يستهدف تصفية حقوقه وقدرته على الصمود والمقاومة. وهذا وقت الوحدة والتضامن. لا يجب إهمال هذه الأسئلة ولكن الأولوية هي لمواجهة ما يتعرض له شعبنا في غزة من حرب إبادة تحت إجراءات قطع المياه والوقود والكهرباء والمواد الغذائية، وأعتقد أن الضفة الغربية لن تكون بمنأى عن هذه الإجراءات، وما يحتمه ذلك من توحيد كل الجهود لوقف هذه الحرب والمجازر الدموية التي تجري ويتم الاستعداد لتوسيع نطاقها في إطار استراتيجية حكومة الاحتلال الوحيدة لترميم صورة الجيش الذي لا يقهر وقدرته على الردع التي تهاوت في السابع من أكتوبر.