في أول تعليق أصدره موشيه ديان، عن خط بارليف الذي اخترقه المصريون واستولوا عليه في أكتوبر 73 قال: "لقد تحوّل الخط الدفاعي إلى قطعة من الجبن الفرنسي فيه من الثقوب أكثر مما فيه من الجبن".
تعليق أسطورة إسرائيل العسكرية "ديان" قُرأ في حينه على أنه تعبير عن إخفاق عسكري مدوٍ، وقد عالجته إسرائيل بلجنة تحقيق حددت التقصير الذي مكّن جيش مصر من التوغل في سيناء كمقدمة لتحريرها أخيراً.
ومع الفوارق الهائلة بين أكتوبر 73 وأكتوبر 2023 في أحجام الدول والجيوش وقوة النار، حيث الأول بين جيشين قريبين من التكافؤ، أمّا الثاني فبين جيش يتمتع بأكبر قوة نار وتدمير في المنطقة، وبين مقاومين يمتلكون سلاحاً بدائياً إذا ما قورن بسلاح الخصم، يعيشون في بقعة هي الأضيق، محاصرة من البر والبحر والجو، وكل ما لدى هذه البقعة ومن عليها هو ما دون الحد الأدنى المتوفر للحياة.
لو كان موشيه ديان على قيد الحياة، لقرص نفسه كي يتأكد من أن الذي حصل على السادسة والنصف صباح السابع من أكتوبر لم يكن حلماً، بل حقيقة، ولأدرك أن الحكاية لم تعد خطأً دفاعيا جرى اختراقه، ولا فشلاً استخبارياً يجري إلقاء اللوم عليه، بل هو أكثر بكثير من ذلك، إنه فشل استراتيجي تعود جذوره إلى حزيران 1967 الذي انتصرت فيه إسرائيل على ثلاثة جيوش عربية في ساعات، كان انتصاراً مدوياً بل بدا كما لو أنه غير منطقي، حصلت إسرائيل الصغيرة إثره على أضعاف مضاعفة لمساحتها من الأرض المصرية والفلسطينية والسورية، دون أن تنتبه إلى الوجه الآخر من الحقيقة، وهو أنها وقعت فيما يمكن وصفه "بغيبوبة التفوق" ورغم ضربات كبيرة وموجعة منيت بها على يد المصريين والفلسطينيين واللبنانيين ومن معهم من العرب، إلا أنهم ذهبوا إلى معالجة كل ما حدث لهم، كما لو أنه مجرد خلل في الأداء، تكفيه لجنة تحقيق، تحاسب بعض الضباط والسياسيين ليعودوا بعد ذلك إلى غيبوبة التفوق بعد أن ظنوا بأن اللجان عملت عملها.
في أكتوبر 2023؛ كانت حدود إسرائيل مع غزة، مختلفة تماما عن حدودها مع مصر، فلا خط بارليف حول غزة، ولا أسوار تحيط بمستوطنات الغلاف، وإنما ما كانت تعتبره إسرائيل أقوى وأهم هو "المعادلة" وقوامها، قوة عسكرية إسرائيلية متفوقة، لا تحتاج إلى أيام وأسابيع كي تُستدعى للعمل، بل ثوانٍ معدودات، وتفوق ناري يقاس بالفارق بين الإف 16 في الجو والبوارج في البحر والدبابات على البر، مع يقين بأن لا حاجة لتحصين دفاعي كخط بارليف، "فالمعادلة" تكفي كما جربت في كل الحروب السابقة، فما أن تنهار أول بناية غزية حتى يهرع الوسطاء لوقف تدمير ما تبقى، وبعد ذلك إن لم تستطع إسرائيل فرض شروطها بالكامل، فتستطيع أن تعود إلى غيبوبة التفوق الذي يجعلها في مأمن من اجتياح كذلك الذي حدث في أكتوبر 73.
غزة.. مرجل مغلق يغلي، أحيانا يُبعد عن الانفجار بفعل تنفيسات محدودة، وأحيانا بتبريد كرفع منسوب الكهرباء من ساعتين في اليوم إلى ثلاثة، وغالبا بزيادة عدد العمال من عشرة آلاف إلى عشرين، ودائما تظل غزة كجريح لا يُسمح له أن يموت ولكن لا يسمح له أن يُشفى، حتى صار الواقع الغزي رهينة لكل ما هو حد أدنى في الحياة، وأصبح الناس يعيشون بين شقي رحى لا تتوقف عن طحن أهل غزة بلا توقف، وما أن تضع الحرب أوزارها حتى تبدأ المعادلة القديمة في العمل، ويبدأ التنقيط في الحلق قطرة قطرة كي يبقى البلد والشعب في حالة احتضار.
هذه لم تنتج موتاً بل أنتجت حرباً، تكاثرت المواليد التي لا تعرف شيئا عما وراء إيريز ورفح، وتحولت ورشات الحديد إلى مصانع بنادق، وتطورت صناعة الصواريخ لتصل إلى قلب إسرائيل، بعد أن كانت في الحرب الأولى تنفجر داخل غلاف غزة، وانفتحت البلاد على أجندات إن لم يشارك أصحابها في الحروب، فبالدعم، والاستثمار وحتى الادعاء.
أمّا إسرائيل مالكة مفاعل ديمونا والإف 35، والتحالف الأقوى مع الدولة الأقوى، فكانت نائمة في غيبوبة حزيران التي قال فيها ديان ذاته، "إنني أجلس بجوار الهاتف كي يرن ليحمل نبأ الاستسلام النهائي".
لم يكن ما حدث خللاً استخبارياً كما تقول إسرائيل، ولا لوجستياً بل كان خللاً استراتيجياً في السياسة قبل الحرب.
وهذا لا تعالجه لجنة، بل يعالجه تغيير جذري في النهج والسياسات.
ملاحظة أخيرة.. سيبادر كثيرون إلى تبني ما حدث كأنه من صنعهم، وهو في حقيقة الأمر صناعة غزية بامتياز.