شاهد العالم أجمع الجيش الإسرائيلي وهو ينهار أمام المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، مشاهد لن ينساها الإسرائيليون أنفسهم، الهجوم على حاجز "إيريز"، إختراق وتدمير جزء كبير من الجدار الحدودي الأمني، إقتحام المقاومون الفلسطينيون لكافة مستوطنات الغلاف واشتباكات مع المستوطنين، تدمير غرفة عمليات فرقة قيادة غزة الإسرائيلية، إرتباك واضح للمؤسسة الأمنية الاسرائيلية. أسرى إسرائيليون يتم قيادتهم بسهوله الى داخل القطاع. كل هذه المشاهد غير المسبوقة تدفعنا الى التساؤل عما يحدث؟
أُقدّم في هذه المقالة تحليلاً من زاوية أخرى تختلف عن المنظور العسكري التقليدي، وربما صورة مختلفة عن تفسير هذه الأحداث مع الإعتبار لوجاهة كافة التفسيرات العسكرية وغير العسكرية. هذه الصورة تنطلق من مفهوم العنصرية الإسرائيلية، وهي تفسر الى حد كبير مشهدين مهمين في هذه الحرب التي لا تزال في بدايتها. المشهد الأول؛ وهو إختراق جبهة القوات الاسرائيلية الجنوبية في مدة لم تتجاوز الساعة وربع. برغم وجود الآلاف من الجنود وأجهزة الرادار وعتاد عسكري ثقيل. والسبب في ذلك بإعتقادي هو عقيدة التفوق العسكري الإسرائيلي المترسخة في عقول الجنود والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية. وهذه العقلية نتجت عن واقع التفوق العنصري الذي يشعر به اليهود تجاه العرب، فبات هؤلاء ينظرون دوماً نظرة دونية للعرب، فهم على مر العقود السابقة يبدأوون الحروب ويقتلون ويحتلون ويأسرون . إن الكلمة لهم بإختصار في السلم والحرب، ليس فقط لأنهم يملكون التفوق الغسكري، وإنما أيضاً لأنهم شعب الله المختار!، الذي يمتاز عن باقي الشعوب وتحرسه دعوات الحاخامات اليهود وصلواتهم التي لا تنقطع يومياً. هذه العقيدة العسكرية اليهودية المبنية على العنصرية والتفوق طوعت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تجاه الهجوم وليس الدفاع (على خلاف الصفة التي ألصقها بها جيشها). وباتت هذه المؤسسة وعلى مر العقود تبرع في الهجوم وإختيار الأهداف العسكرية واحتلال المناطق وإعداد الخطط الهجومية، ولكنها لم تعتاد ولم تتصور نفسها تصد هجوماً مدبراً لأنها لا تؤمن بجدارة الخصم، بل لأنها لا تعتبره موجوداً بالأصل. انها مؤسسة أصبحت كالآله تماماً مثل المسدس، الذي يستطيع أن يطلق النار بسهوله فائقة ولكنه لم "يُبرمج" على منع أحد من أن يقترب منه ويلقيه على الأرض.
أما المشهد الثاني الذي يعكس واقع العنصرية والأبرتهايد في هذه الحرب، فهو مشهد آلاف الفلسطينيين الغزاويين المدنيين الذين لم يصدقوا مشهد إنهيار جدار الفصل العنصري بينهم وبين الأراضي المحتلة عام 1948، عبروا مسرعين غير عابئين بالقصف الاسرائيلي، توافدوا جماعات تلو الجماعات في اليوم الأول لانهيار الجدار، منهم من سار على قدميه، ومنهم من عبر راكباً دراجته أو سيارته، ذهبوا لرؤية هذه المستوطنات الاسرائليية التي أقيمت على قراهم المهجرة بعد حرب 1948. اختلسوا النظر الى تلك البيوت الأنيقة، إشتاقوا الى أطلال قراهم المهجرة، أخذوا بعض الحاجيات التي لم يعتادوا على رؤيتها في بيوتهم نتيجة للفقر المتقع بعد حصار إسرائيلي للقطاع تجاوز ال 20 عاما.
الحرب تظل الحرب، إنها في النتيجة بحر من الدماء، ولكنها في إطار الصراع العربي الاسرائيلي لها دوافع وعوامل مختلفة، ولعل واقع التفوق العنصري لليهود جعل اليهود الذين يصوبوا أسلحتهم نحو العرب وفي كافة الاتجاهات ينتظرون الأوامر العسكرية فقط في اتجاه واحد وهو القتل والتدمير والاحتلال، ولم يعتادوا على "برمجة" أدواتهم العسكرية وعقولهم على حماية أنفسهم والمناطق التي يسيطرون عليها. وفي سياق نتائج هذه الحرب التي ما زال الجميع ينتظرها، فإن جدارات الفصل العنصري التي تبرع إسرائيل في بنائها منذ خط بارليف والى الآن ربما لم تبدي نفعاً حتى في إخافة المدنيين الفلسطينيين الفقراء واللاجئين أن يقتحموا المستوطنات المرفهة وان يلتقطوا الصور التذكارية لهم في هذه المناطق التي كانت يوماً ما قبل 75 عام قراهم التي نشأ أجدادهم فيها. وفي النتيجة، على إسرائيل أن تتعلم الدرس جيداً، وأن لا تحتبئ وراء عباية التفوق العسكري بعيداً عن استحقاقات السلام. فالفلسطينيون شعب عظيم لن تردعه أسلحتهم وجداراتهم الأمنية الكبيرة، انهم يريدون فقط دولتهم المستقلة .