كتب: محمد هليّل
كثير من الأمور في حياتنا لا تأخذ الحيّز العادل من الاهتمام أو التعاطف أو حتى العداء إلّا بعد أن تحضن حدثا هاما، والأحداث الهامة لا تعني بالضرورة شمول كل حيثيات الزمان والمكان، هنا في فلسطين، المعادلة مختلفة تماماً، لأن السياسة تطغى على كلّ شيء، ليس حباَ، بل أمراَ مفروضاَ وعلينا التعامل معه، مجازر واجتياحات واغتيالات وأسرى بالجملة.
قبل أيّام، كانت الشجاعيّة كأي مدينة فلسطينية، بل كأي حي، ومن يسمع كلمة «حي» لن يخدعه عقله بتصوّر مدينة ممتدّة من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، الشجاعيّة حي تبلغ مساحته 5652 دونم موزّعة بالتساوي تقريبا بين حيّين أصغرهما «اجديدة» الشمالي بعدد سكانه 36750 نسمة، و»التركمان» الجنوبي بعدد سكان يبلغ 52800 نسمة.
ولأن الشجاعيّة كأي حي فلسطيني، أصبح واجبا كما اعتدنا من العدو الإسرائيلي، أن يخلق حدثا هاما فيه، يجعل منه عبرة لمن لا يعتبر بحسب رأيه، تماماَ كأي زقاق وأية شخصيّة وأي وقت، فكان بمثابة «بوز البندقيّة» في وجه آلته الحربيّة الجويّة والبريّة والبحريّة، ولم يكن قصفاً بل أمطاراَ بالقذائف الثقيلة، وهنا يتخيل المرء أن يكون في منزله بين عائلته يشاهدون مسلسلاَ مفضّلا أو يستمعون لنشرة أخبار حول ما يجري في الحيّ المجاور، ناقمين ولاعنين الاحتلال على أفعاله، ويتخيل الآخرون ماذا سيفعلون لو حلّ بهم المثل لأن هذا متوقع في أي لحظة، وحقّا أصبح المتوقع واقعا، أن تسقط قذائف في كل مكان، أن تصرخ بكل قوتك دون مجيب، وأن ترى أهلك كلّ قد فارق الحياة وهو في مكانه، تماماَ كمن يصبّ جليداَ حارق على ألوف من البشر والحجر.
انتهت المجزرة.. لا جرحى فيها، ليس عطفاَ من القاتل، بل لأن الموت استعجل شفاءهم، لا سيارات اسعاف نقلت ولا أخرى لبّت النداء من الصليب الأحمر، أمر عسكري مفاده «من يدخل يُقتل، نحن نمطر كل شيء بأطنان متفجّرة، لا رحمة لأحد».
صباح اليوم التالي كانت امرأة مقنّعة بالدموع وغبار الثريد، تبحث عن أهلها، دخلت المنزل محاولة الاستدلال عليهم بعلامة تميّز كل فرد فيهم، هذا شعر حفيدتي تحت الرّدم، هذه يد ابني ما زالت قابضة على شباك المنزل، يبدو أنه كان ينتظر دور المنزل في مطر بلا خير، ويبدو أن القذيفة قد سبقته إلى أخبار الأهل فحوى ما يجري في الخارج، هذه زوجته أسفل الدرج، أتوقّع أنها كانت تجلب الشاي، هذا عمي، ذاك ابنه، تلك اخته، هؤلاء جيراننا، أحمد الصغير صاحب الدرّاجة كثيرة الأعطال، كلّهم قد ماتوا، بكلّ ابتساماتهم قد ماتوا ... ويا أنت فلتتذكر الموتى، والدموع أصدق أنباء من الصحف.
عام 2008 قتل العدو نحو خمسين شجاعيا أثناء عدوانه على القطاع، وفي كلّ مرّة تكون الشجاعيّة صاحبة الرقم الأكبر من حيث الشهداء والجرحى وحجم الدمار، هذا نصيها في الدنيا، أن تكون على حدود القطاع، وأن تكون بوابة العدو على خططه العسكرية في كل محاولة اقتحام، كحي التفاح وخان يونس وكل مدن وأحياء وقرى القطاع على الحدود، الشيء هنا لا يمت للأنانيّة بصلة، بل يجسّد لحمة الأرض كلحمة البشر، يصوّر مدى احتضان هذه الأمكنة لداخل القطاع، خوفاَ عليها من اقتحام أو تدمير، هذا ما يميّز القطاع وحده.
هل حقاَ تفنى الأجساد وتبقى الفكرة المتوارثة من جيل لجيل؟ يبدو أنّها الفكرة الأولى التي خطرت في بال شبل دُمّر كلَ ما يملك، مقتنعاَ ومؤمناَ بفكرة مفادها، وجهتنا واحدة ولن يثنينا قتل أو تدمير ونحن أصحاب مقولة انتصار الدم على السيف، لا تأليف منّي ولا جيشان مفرط من العاطفة كما يعيش كلّ فلسطيني، بل رسالة إعلامية عبر إحدى الفضائيات، كأخرى سبقتها بأيام لأب فقد أبناءه الذين تركهم قبل سويعات بقبلة يلعبون على الشاطئ.
عاجلاً أم آجلاً ستنتهى الحرب، ستقف عيون المتعاطفين عن الدمع، وستصبح كراتين المتضامين أوراقا لإيقاد نارِ في الشّتاء المقبل، من يبقَ ابن الحرب اليوم وغدا وبعد جيل، هو من ذاق ويلاتها، وجمع أشلاء عائلته ودفنهم على عجالة... قبل أن يقبّل أحدا منهم، وربّما يعود بعد هدنة سالما ليكتب على شاهد كلِّ منهم «نلتقى بعد قليل، بعد عامِ... بعد عامين وجيل».