الطريقة الأمريكية التي تتبناها أوروبا بدون نقاش تقوم على الانطلاق من الواقع القائم. لا مكان في العقل الأمريكي لمراجعة الماضي أو السياق أو الأسباب والمقدمات. لقد قامت قوة من القسام بدخول مستوطنات غلاف غزة يوم السابع من تشرين الأول وقتلت وأسرت وبثت الرعب في قلوب الإسرائيليين الآمنين من مدنيين وعسكريين كانوا يحتفلون بأعياد الغفران. وهكذا تستحق غزة أن تزال من الوجود وأن تتلقى إسرائيل الحب والرعاية التامة من أمريكا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا بينما تقوم هي بقصف المشافي والمدارس والعمارات السكنية الآمنة لتقتل حتى اللحظة ثلاثة آلاف مدني من بيهم أكثر من ألف طفل. لكن القصة لها بداية حتى لو كان عالم الشمال لا يريد الإصغاء لما حصل أصلاً.
هل نبدأ من دافيد بن غوريون قائد "حرب التحرير" الصهيونية ليصبح أول رئيس وزراء للدولة المقامة على أنقاض القرى والمدن الفلسطينية المهجرة والمطهرة والمدمرة؟
يقول بن غوريون:
"If I were an Arab leader, I would never sign an agreement with
Israel. It is normal; we have taken their country. There has been anti-Semitism, the Nazis, Hitler, Auschwitz, but was that their fault? They see but one thing: we have come, and we have stolen their country. Why would they accept that?”
“Let us not ignore the truth among ourselves … politically we are the aggressors, and they defend themselves,” he said. “The country is theirs, because they inhabit it, whereas we want to come here and settle down, and in their view, we want to take away from them their country.”
إذن بلسان بن غوريون المؤسس أنهم أخذوا أرض فلسطين التي كان الفلسطينيون يعيشون فيها منذ آلاف السنين، واستوطنوها وطهروها ليصفو لهم طيب العيش فيها. بالطبع تم ذلك عن طريق المذابح والطرد باستعمال القوة وكل ما يلزم لتحقيق فكرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وقد أوضح مؤرخون إسرائيليون كثر من قبيل إيلان بابيه وشلوموساند وبيني موريس ..الخ الآليات التي تم بها تطهير فلسطين.
لو جاء الأكراد أو العرب أو الغجر وطهروا فرنسا ليقيموا فيها دولتهم، هل سيكون رد الفعل شيئاً آخر غير المقاومة وحرب التحرير؟
كان نصيب قطاع غزة الذي كان منطقة شبه خالية بها بضعة آلاف من السكان استقبال أعداد هائلة من اللاجئين الذين تم تطهيرهم من المدن والقرى المجاورة. وهكذا تحول هذا الجيب الصغير الذي لا يتجاوز 360 كم مربع إلى منطقة مكتظة بالسكان. وقد تم إلحاقه بمصر بعد قيام إسرائيل سنة 48 وضم الجزء الشرقي المتبقي من فلسطين للأردن. شكلت دولة إسرائيل الوليدة ما يوازي 78 في المئة من أرض فلسطين.
لكن إسرائيل بالطبع كانت ميالة إلى التوسع ما أمكن. وهكذا قامت بالعدوان على مصر سنة 1956 بالاشتراك مع بريطانيا وفرنسا لينتهي الأمر بانسحاب المعتدين بسبب معارضة الولايات المتحدة التي كانت ترغب في طرد الدولتين والحلول مكانهما في موقع المهيمن في النطاق الدولي.
بعد ذلك بعشر سنوات ستقوم إسرائيل بعدوان منفرد على مصر وسورية وما تبقى من فلسطين فتحتل سيناء وغزة والجولان والضفة الغربية التي تشكل ما كان قد تبقى من فلسطين.
ستحاول منظمة التحرير عبثاً أن تحقق حلم الفلسطينيين ببناء دولة على الجزء الصغير المحتل سنة 67. وبعد سنوات كثيرة تعرض فيها الفلسطينيون للكثير من الخيبات والآلام وافقوا مرغمين على توقيع اتفاقية أوسلو سنة 1993 على أمل أن يأخذوا دويلة منزوعة السيادة والسلاح في الضفة وغزة. لكن إسرائيل كانت تريد وكيلاً أمنياً لا أكثر. وهكذا طلبت من السلطة الوليدة أن تقوم بقمع الشعب في غزة والضفة دون أن يتوقف استيطان الأراضي في الضفة ليرتفع عدد المستوطنين أضعافاً بعد اتفاقية السلام المزعومة الموسومة باتفاقية أوسلو.
سيكتشف الراحل ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية أن إسرائيل تستغل سلطته لابتلاع ما تبقى من أرض الضفة بينما يقوم هو بمنع المقاومة بشكل أو بآخر. وهذا ما يقود إلى انتفاضة العام 2001 التي نجم عنها اجتياح إسرائيل لمدن الضفة من جديد وقتل آلاف الفلسطينيين، ومحاصرة عرفات في مقره وصولاً إلى تسميمه وموته. بعد ذلك سيتعلم خلفاء عرفات الدرس وينفذون كل ما تطلبه منهم إسرائيل دون أي تردد، لكن غزة تظل تقاوم فيقرر شارون الانسحاب منها ومحاصرتها محاصرة تامة.
بعد ذلك يقع انفصال بين غزة والضفة إثر فوز حماس في الانتخابات ورفض السلطة الإقرار الفعلي بنتائجها، ومنذ ذلك التاريخ ستحاول إسرائيل تحويل غزة إلى جحيم. مثلاً بعد المواجهة مع حزب الله في العام 2006 احتاج الجيش الإسرائيلي إلى ترميم صورته فشن حرباً على غزة سنة 2008/9 نفذ فيها ما عرف بعقيدة الضاحية نسبة إلى ضاحية بيروت الجنوبية التي قام بمسحها في مواجهة 2006. صب الجيش الإسرائيلي جام غضبه على سكان غزة الأبرياء وقتل منهم الآلاف بدون أن يتعرض هو أو المستوطنين لأية خسائر. قررت لجنة القاضي جولدستون وهو يهودي من جنوب إفريقيا التي حققت في تلك العملية أن جرائم حرب متنوعة وواسعة قد وقعت على يد الجيش الإسرائيلي. ولكن كما هو متوقع لم تتعرض إسرائيل لأية عقوبات بسبب الحماية الأمريكية المطلقة.
بعد ذلك ستتعرض غزة لأعمال عدوانية واسعة سنة 2012 ثم 2014 ثم 2018. وكانت تجربة 2014 بشعة إلى حد لا يوصف. بداهة أن المقاومة في غزة بدأت تطوير قدراتها لمحاولة الدفاع عن غزة وعما تبقى من أرض الضفة التي تقلصت بفعل الاستيطان ولم تعد تشكل أكثر من عشرة في المئة من مساحة فلسطين التاريخية.
في المواجهة الأخيرة الراهنة، لأول مرة تتمكن حركة المقاومة حماس من إلحاق بعض الخسائر بالجيش الإسرائيلي ومستوطنيه، وهكذا جن جنون العالم الغربي الذي يرى الدم الإسرائيلي غالياً ويرى الفلسطينيين حيوانات لا تستحق القلق أو الاهتمام عندما تقتل على حد تعبير وزير إسرائيلي بارز. لذلك كان لا بد من رسم صورة للمقاومة الفلسطينية في غزة بأنها قتلت الأطفال والنساء والمدنيين، وهو ما اتضح بعد وقت قصير أنه تلفيق وأكاذيب.
الآن تواصل إسرائيل إبادة الناس في غزة بلا هوادة. هناك ثلاثة آلاف مدني تحققنا من مقتلهم بينهم ما يزيد على ألف طفل. وهناك آلاف المفقودين وما يربو على 10000 جريح خلال عشرة أيام من الجحيم الإسرائيلي. يقتل 300 مدني فلسطيني كل يوم. وترسل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا دعماً عسكرياً وسياسياً مطلقاً لإسرائيل.
من جانبها إسرائيل قطعت المياه والكهرباء عن غزة. ومن حق الفلسطينيين أن يموتوا عطشاً إذا نجو من قصف القنابل التي وصلت إلى سبعة آلاف طن أو ما يزيد على ربع قنبلة نووية، كما يزيد على كل ما ألقته أمريكا على أفغانستان أيام جنونها بعد حادثة البرجين.
لا يستطيع المواطن الذي يعيش في المنطقة العربية إلا أن يفكر أن القوى الاستعمارية البريطانية والفرنسية والأمريكية تدعم إسرائيل بوصفها جزءاً من الاستعمار العالمي لا أكثر ولا أقل. ذلك أن المواطن في بلادنا لم ينس بعد الملايين الذين قتلتهم فرنسا في الجزائر أو بريطانيا في مصر وفلسطين أو أمريكا في العراق وفيتنام. وإذا كان المواطن الغربي لا يعلم ما يجري فذلك لأنه على الأرجح ليس معنياً بالمعرفة. وحتى عندما كان يعرف ويهتم إلى درجة خروج الملايين في لندن ضد احتلال العراق سنة 2004 فإن ذلك لم يمنع نخب الصناعة العسكرية والنفطية من المضي قدماً باتجاه احتلال العراق وتدميره وقتل الملايين من أبنائه. لكن الناس في بلادنا يحملون بقية أمل إنساني فحواه أن ضمير الإنسان في أوروبا والولايات المتحدة قد يصحو ليواجه آلة الرعب الإسرائيلية/الأمريكية التي تصب الموت والدمار على البشر العزل دون أسباب أو مسوغات، ولا حتى المصالح الفجة من قبيل النفط أو مبيعات الأسلحة.