الحدث- محمد غفري
قبل نحو عامين، تمكنت والدة الأسير مجد محمود زيادة، التي كانت مريضة بالسرطان من احتضان ولدها وشم رائحته وسماع صوته، في مشهد مؤثر انسحب السجانون الإسرائيليون على إثره، وتركوا الأم مع ابنها في لحظات عناق تغمرها الدموع وكأنها لحظات وداع أخيرة.
ولم تتمكن السيدة لطفية زيادة والدة الأسير مجد، القابع في سجون المحتل منذ 11 عاماً، من زيارته نجلها الوحيد منذ أكثر من عامين بسبب المرض الخبيث الذي ألم بها.
وذكرت حرية زيادة شقيقة الأسير، تفاصيل تلك الزيارة في رسالة كتبتها إلى شقيقها المعتقل، بعد أن زارته هي الأخرى في موعد لاحق، وقالت فيها: "ماما كانت سعيدة جداً لم تستطع التوقف عن التفكير برؤيتك، ويوم الأحد الموافق 14/10/2012 بدأنا بالاستعداد للزيارة كلٌ منا كان يفكر كيف ستمضي الـ 45 دقيقة، وكيف سيكون اللقاء هل سيتركونكم وحدكم؟ كيف ستكون ردة فعلك حينما ترى ماما للمرة الأولى بعد المرض؟ هل ستتحمل ماما ألم فراقك مرةً أخرى؟ كيف ستستطيع أن ترفع يديها عنك عند انتهاء الزيارة...؟"
وأردفت الأخت في رسالتها، "أخبرنا الصليب الأحمر أنك لم تصل إلى سجن عوفر بعد، على الرغم من أنه كان من المفترض، أن تكون قد وصلت إلى هناك منذ ثلاثة أيام، وسيتم تأجيل الزيارة ليوم أو اثنين... واتصلت مع طبيب ماما وطلبت منه تأجيل موعد جرعة الكيماوي، لأن زيارتك قد تكون بنفس اليوم، وافق الطبيب مع إعلامي بأن هذا التأجيل ليس جيداً لصحتها.. لكنني كنت متأكدة أن رؤيتها لك، ستمدها بطاقةٍ وقوة أكثر من أي جرعة كيماوي أو دواء".
الجهود التي قام بها الصليب الأحمر الدولي في ذلك الوقت مكن الأم من زيارته في موعد مختلف دون قضبان وشبك، في سجن عوفر العسكري وبأمل ألا تكون زيارة الوداع الأخيرة، وتمنت في ذلك الوقت أن تراه وتحتضنه، قبل أن يسوء وضعها الصحي.
نقل الأسير مجد وهو من سكان رام الله المحكوم بالسجن (30 عاما) من سجن نفحة إلى سجن عوفر العسكري لإجراء الزيارة لوالدته، وذلك على ضوء عدم قدرتها على السفر لمسافة طويلة إلى سجن نفحة، بعد موافقة سلطات الاحتلال على ذلك.
ويوم الثلاثاء 16/10/2012 نقلت والدة الأسير مجد زيادة عبر سيارة إسعاف الهلال الأحمر الفلسطيني، وعلى الحاجز الإسرائيلي تم نقلها عبر سيارة إسعاف إسرائيلية إلى داخل سجن عوفر العسكري، حيث جرت الزيارة وجها لوجه دون شبك وقضبان.
وتابعت حرية في رسالتها، "حينها تذكرت آخر مرة حضنتك ماما يوم اعتقالك وأنت بالتاسعة عشر من عمرك، تذكرت حين كنت أذهب معها إلى أقرب نقطة من سجن عوفر، كانت تبحث عنك، تحاول الاقتراب منك، لكنك كنت أبعد بكثير، في مكان ما وسط الصحراء، وها هي الآن ستذهب إلى سجن عوفر مرة أخرى بعد 11 سنة لتحتضنك مجددا وأنت بالثلاثين من عمرك".
وأضافت "لم يسمحوا لبابا برؤيتك، وأدخلوا ممرضة لمرافقة ماما بالزيارة، كم أتمنى لو كان باستطاعتي أن أرى مشهد لقائكم، بكت الممرضة وحاولت أن تقف بعيدا عنكم، ماما قالت لي بعد الزيارة: إحساسي في تلك اللحظة من الصعب وصفه، وأنت قلت لي في زيارتي لك بعد ذلك: حكيتلها ماما، ما تبكي، وقالتلي هدول دموع الفرح.. وأخبرتني ماما بأن الـ45 دقيقة كانوا 3 دقائق، حضنتك حتى قالوا لها انتهت الزيارة".
وعاشت أم مجد مشاعر متناقضة بين أن يراها ولدها في هذه الحالة الصحية، وبين شوقها الكبير، لأن تراه بعد غياب طويل، وهو حال المئات من أمهات الأسرى المريضات اللواتي توقفن عن زيارة أبنائهن بسبب المرض أو بسبب الوفاة.
ووصف الأسير محمود غلمة المتواجد في سجن عوفر، لمحامي وزارة شؤون الأسرى واقع الزيارة بأنه مليء بالمشاعر المؤلمة، بين فرح ودموع وألم تمتزج في عناق الأم بولدها.. حيث بكى الجميع، قائلاً: "حتى السماء والجدران والقضبان بكت.. أمام لحظات تحرر منها مجد من قيوده ورأى أمه بلا لوح زجاجي، حيث انهال يقبل يديها ويضمها كأنه لا يريد أن تنته هذه اللحظات التاريخية".
وبعد الزيارة وصفت شقيقة الأسير في رسالتها له، تلك المشاعر في منزلهم برام الله: "عادت ماما وبابا إلى البيت، وقال لي بابا: بس خلصت الزيارة دخلت بسرعة، شفته من بعيد 15 ثانية طويل ولابس طاقية كحلي، وكان سعيد لأنه استطاع أن يراك رغماً عنهم لو حتى ثواني.. ماما عادت أيضاً وهي سعيدة لأنها استطاعت أن تراك لمدة 45 دقيقة.. وأنا وأختي راية أيضاً سعيدين جداً لأننا استطعنا أن نراك تحضن ماما بالصورة، جميعنا فرحنا ليس لأننا نرضى بالقليل، لكن لأننا نعرف كيف نفرح رغماً عنهم، لم يكن هذا اللقاء وداعيا، بل كان بداية لحياتنا معاً، فسنستمر بالمحاولة لن نيأس ولن نحزن فهناك الكثير لنفعل، ولن يضيع حقنا ما دمنا نطالب".
وأكملت في رسالتها، "قلت لي في الأمس أنك كنت ترتب وتفكر منذ أشهر للتعامل مع الموقف خوفاً على ماما، جميعنا قلقنا لكن كان من الأجدر بنا يا أخي أن نتذكر أن ماما كانت تزور السجون منذ العام 1978 قبل أن نولّد، فهي تعلمت على أبواب ومداخل السجون كيف تتعامل مع المستعمر، كما وعلمتنا جميعاً ألا نخضع لهم، علمتنا كيف نسرق منهم الفرح في وسط الألم، وكيف نحول غطرستهم إلى ضعف، وكيف نصنع من ألمنا صبراً، صموداً ومقاومة".
وعادت أم مجد من الزيارة قبل عامين لأخذ جلسات العلاج الكيماوي، وقالت إن زيارة ولدها هي أفضل علاج لها، وأضافت: "لقد امتلأ صدري برائحته وشعرت بالشفاء".. بينما عاد مجد إلى غرفته في السجن متسائلا هل أستطيع أن أرى أمي مرة أخرى!".
وختمت حرية رسالتها "ذهبت إلى غرفة ماما لأسألها عن الزيارة فقالت لي "اتركيني احلم".
يوم الجمعة الأول من أمس رحلت السيدة لطيفة زيادة عن الدنيا إلى السماء، قبل أن يتحقق ذلك الحلم، الذي تحدثت عنه قبل سنتين في آخر زيارة لابنها الأسير البطل مجد، وعاشت على أمل أن تراه حرا دون قيد، لكنها رحلت وما زال مجد مقيداً، صامداً في زنزانته، فلا بد لليل أن ينجلي يوماً ولا بد للقيد أن ينكسر ولو بعد حين.