بعيداً عن الدعاية، تشكل مقولة ردع العرب أفراداً ومجتمعين جوهر السياسة الإسرائيلية من الناحية الاستراتيجية. قوة إسرائيل تستند بشكل لا مهرب منه إلى قدرتها على ردع العرب. ومنذ أيام بن غوريون في الخمسينيات كانت الفكرة أن الدول العربية وخصوصا مصر سوف تهرع إلى السلام والقبول بإسرائيل عندما "تقنتع" بأن إسرائيل قوية بما يكفي، وأن أحداً لا يمكنه أن ينتصر عليها أو حتى يهددها.
انطلاقاً مما سبق تؤمن العقلية الإسرائيلية أن أية بوادر للضعف تعني نهاية المشروع الصهيوني في السيطرة على المنطقة بوصف إسرائيل كما لاحظنا بوضوح كاف في الأيام القليلة الماضية رأس حربة في النظام الاستعماري العالمي، وأداة من أدواته الضرورية في تحقيق الهيمنة في هذه المنطقة الحيوية في المستوى الكوني.
لقد دخلت إسرائيل فعلياً منذ أكثر من عشر سنين في أجواء الهيمنة على المنطقة أحياناً بطلب صريح من دولها العربية التي تمنعت أكثر من نصف قرن عن القدوم إلى بيت الطاعة الإسرائيلية حتى بعد أن انفصلت مصر عن الجسم العربي المقاطع لإسرائيل في العام 1979. وهكذا ركضت البحرين والإمارات والسودان علناً باتجاه التطبيع مع إسرائيل وطلبت معونتها وربما حمايتها في وجه التهديدات الخارجية والداخلية على السواء. وفي الوقت نفسه كانت مصر والسلطة الفلسطينية والأردن والمغرب قد انتهت من حالة العداء مع الدولة العربية بأي شكل من الأشكال. أما السعودية فقد كانت تسابق الخطى لخطب ود الكيان عندما فاجأتها عملية المقاومة الغزية في السابع من الشهر الجاري. بالطبع يصعب على أي عاقل أن يفترض أن الدولة التابعة لقناة الجزيرة تكن أي عداء لإسرائيل باستناء الجعجعة الإعلامية التي تقوم بها القناة ذاتها. أما من ناحية الممارسة السياسية الفعلية فيستطيع أي مراقب أن يبصر بالعين المجردة الهوة الواسعة التي تفصل بين المواقف الفعلية المعادية لسورية وكيفية ترجمتها على الأرض دعماً عسكرياً وسياسياً يصل إلى مئات المليارات مع لغة واضحة حادة لا تشوبها شائبة في الدعوة إلى إسقاط نظام الأسد الدكتاتوري، في مقابل النعومة المذهلة تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة بما يشي للسامع بأن الموقف فعلياً منحاز لإسرائيل ضد غزة.
فجأة انهارت اللحظة الجميلة: هذه الإسرائيل التي تخيف الناس جميعاً، ويظن الخائفون أنفسهم أنها مؤهلة لحمايتهم من خطر إيران وتململ شعوبهم على السواء، تتلقى ضربة هائلة على يد قوة "القسام" الصغيرة نسبياً. تدخل عناصر القسام إلى المستوطنات المحيطة بغزة دون مقاومة تذكر. تسيطر لساعات طويلة وتأسر جنوداً إسرائيليين. بل إن هناك أخبار متداولة عن قيام مدنيين من غزة بأسر إسرائيليين بالعشرات. يا للهول! أين ذهبت قوة الردع الإسرائيلية وأسطورة التفوق التي تضمن لإسرائيل إذعان الجيران وولائهم وربما حبهم مقارنة بكراهية إيران وأذرعتها المقيتة وعلى رأسها المقاومتان اللبنانية والفلسطينية؟ وهل يمكن أن يمر ما حدث دون قصف غزة بالقنابل النووية لكي تعود المياه إلى مجاريها وتستعيد إسرائيل دورها بوصفها المندوب الاستعماري السامي في المنطقة المهمة نفطياً واقتصادياً واستراتيجياً؟
حضر من حضر من زعماء الغرب الاستعماري المتوحش للدفاع عن قاعدتهم المتقدمة. وأعطيت إسرائيل الضوء الأخضر للقيام بما هو ضروري لكي تستعيد صورة الردع. وكما حصل في العام 2008 أثناء عملية الرصاص المصبوب التي جاءت بعد فشل إسرائيل في تموز لبنان، يتم قتل المدنيين بلا رحمة ولا شفقة مع غياب قدرة السمع والإبصار الغربية على نحو تام. لكن ما حصل في السابع من تشرين أول كان أصعب من الخسارة في مواجهة المقاومة اللبنانية، ولذلك تقوم إسرائيل الآن بتذكيرنا بما فعله هتلر مع مقاومة وارسو عندما مسح المدينة من الوجود. ولا بد أن القيادة الاستعماية في إسرائيل وغرب أوروبا وشمال أمريكا محتارة في السبل الكافية لمحو آثار الكارثة التي حلت بأسطورة الردع الإسرائيلية، وربما يدفع ذلك باتجاه الاتفاق على اجتياح قطاع غزة برياً بغرض القضاء على القسام والقوى المقاومة الأخرى على أساس أن ذلك هو الطريقة الوحيدة لمحو صورة ما حصل في غزة من إذلال للقوة الإسرائيلية المهولة.
لكن هؤلاء ليسوا مطمئنين تماماً إلى هذه الفكرة، ولذلك نجدهم مترددين في الوصول إلى الحرب البرية. ماذا سيحدث إن تكبد "جيش الدفاع" خسائر فادحة تهز صورته المهزوزة بمقدار أكبر وأشد وقعاً؟ وماذ إذا دخلت المقاومة اللبنانية المواجهة وأوقعت خسائر نوعية أكبر وأوسع مما حصل في عملية القسام الجريئة؟ إن صورة إسرائيل ستنهار تماماً، وستخرج من هذه المواجهة مقلمة الأظفار ولأنياب بدرجة ستعيدها دويلة صغيرة "قادرة" على التنازل والانكفاء والاعتراف بحقوق الفلسطينيين والتنازل عن حلم الدولة المهيمنة في هذا الإقليم المركزي بالنسبة للاعبين الدوليين الكبار.
إذن نظن أن المقاومة الفلسطينية واللبنانية يمكن أن تنجح في ردع إسرائيل الجريحة الهائجة عن مواصلة الطريق الجنوني والاتجاه نحو تقليص الخسائر السياسية بدلاً من توسيعها، وفي ظننا أن هذا هو ما سيوقف ماكينة القتل الأمريكية/الإسرائيلية عن العمل وليس أية دماء فلسطينية أو لبنانية مهما كان مقدار البطش والتوحش، فالرجل الأبيض في إسرائيل وأوروبا على السواء لم يكن يوماً ليكترث لأية دماء للفلسطينيين أو العرب أو أي بشر ممن ينتمون إلى العالم الفقير والمنهوب