يتحرك مصدر الفعل الثلاثي (شهد) في غزة باتجاهات حدوده القصوى، ما بين "شهيد"، و"شاهد"، و"مشهدية"، وما بين كل اشتقاق يتفتق الذهن عنه ليكون ملائما هناك. ستعيد غزة ترتيب نفسها كقطع من هذه الأحرف الثلاثة في كل حروبها التي خاضتها وفي خضم مخاض انتصارها اليوم الذي تدفع ثمنه مباشرة من دماء أبنائها ساعية لتجاوز أحرف لم تعد تسعها. وستقف اللغة هي الأخرى على شفير المخاض، في محاولة أن تتسع خارج اختزالها الثلاثي كي تتسع لغزة وكي تكون بحجمها. فكل مشهد هناك يحتاج إلى لغة خاصة لوصفه، وكل شهيد، وكل جثمان طفل، يحتاج إلى لغة قادرة على سرد حكايته دون اقتضاب لغة السارد والشاهد وكأنه تكرار لنفس المشهد الذي يعلن موت حساسية وحميمية الحكاية.
لن تكون لغة العِلم والأرقام أو القانون لغة مناسبة، فهي لغة اختزال بالأساس، ستتجاوزها غزة وهي في خضم محاولات اللغة أن تلد نفسها، لتقدم لغة فوق اللغة. لغة غزة فوق اللغة، لذلك فهي ما تزال غير مرئية أو مسموعة في حيز اللغات المتداولة في العالم الأنيق الذي يرتدي ربطات العنق الفاخرة، ويتحدث بكل اللغات التي تتسع لتستوعب القاتل وتحول المقتول إلى حيوان. في هذه اللغات سيكون التعبير فراغا والأحرف ممحية. وفي هذا النوع من اللغة، على القارئ والسامع أن يشنف أذنيه ويوسع عينيه، كي يسمع ويرى ما لا يُرى وما لا يُسمع، وهو كل ما يحضر أو يتحدث من خلال التفاصيل الصغيرة وفي الأحداث المميتة التي تبدو عابرة.
إنها لغة فوق اللغة، لأنها فوق الزمن، فلا تحاول اللحاق به بل اللحاق بالمشاهد المتسارعة التي تتخطى سرعة الزمن. وهي لغة تسبق زمن الآن لتكون على استعداد وبكامل أناقتها كي تليق أيضا بمن لم يحضروا بعد أمامها من الشهداء الذين ما زالوا تحت ركام ممتد يقول ما زال في جعبتي الكثير من الحكايات والقصص. كيف يمكن للغة أن تكون قادرة على التحرك بمثل مقدرة المشاهد على التحرك بسرعة مذهلة وبالتزامن؟ يحدث ذلك فقط عندما تكون لغة فوق اللغة وفوق الزمن وتتعامل معه وكأنها قادرة على إعادة صياغته لتقسمه إلى أزمونات مختلفة التوقيت. عندما يكون التوقيت تحت الركام مختلفا عن توقيت من يحفرون بأيديهم ومعداتهم البدائية فوقه. وعندما يكون التوقيت في برج سكني مقصوف مختلف عن التوقيت في مشفى قُتل فيه 500 شهيد بلغة نظرت إليه من السماء بصيغة "إضرب".
لغة غزة فوق اللغة لأنها تركت اللغة المتداولة لمن يملكونها ويتسيدونها مليئة بالقبح والظلم والإهانة، وخلقت للفلسطيني لغته، لغة الإنسان القادر الذي يستخدم لغة قادرة على التعبير عنه لأنها خطاب وممارسة وحكاية. وهي متماسكة في استمراريتها، التي تحفظ استمرارية الفلسطيني حتى وإن لم ترد اللغات الأخرى أن تعبر عنه. ذلك هو فضاء اللغة فوق اللغة، فضاء رحب يتسع للفلسطيني، ويتسع لإنسانيته ولإنسانية من يريد أن يكون إنسانا بكامل إنسانيته دون مّنٍ أو هبة من أحد.
ولغة غزة فوق اللغة لأنها تتكلم اللغات جميعا لكنها لغة عصية على التعلم وعلى امتلاك مفرداتها كاملة، إلا من قِبل من كان يوما مثلها يلد لغته من الموت والدم والتضحية.
هي لغة لذاكرة القادم من المستقبل الذي يبدأ هنا والآن.