من النافذة
بقلم: عبد الفتاح القلقيلي
هنالك مرض نفسي أصيبت به النخب العربية، أستطيع أن أسميه مرض الإحلال، وهو توهم الممثل لفئة من الناس أنه بديل عنهم، فالقائد لشعب عربي يتوهم أنه بديل لشعبه، والقائد لاتحاد ما يتوهم أنه بديل للاتحاد، وهكذا في كل المؤسسات والهيئات. وهذا موضوع هام وشائك في علم النفس الاجتماعي، ويحتاج معالجة جادة وشاملة في مناسبة أخرى.
ونحن إذ نعترف بشرعية تمثيل القائد لجماعته، إلا أننا نؤكد أن الممثل الشرعي ليس بديلا لمن يمثلهم، فعندما أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني لم تكن بديلا للشعب الفلسطيني، بل كانت ممثلاً له، تقوده وتعبر عن آماله وآلامه. وغزة الآن تعبر عن آمال فلسطين وآلامها، فأي متعاطف مع فلسطين سيكون متعاطفاً الآن مع غزة، وكل شاعر بألم فلسطين، هو حتماً شاعر بآلام غزة. مقاومة غزة هي من الآمال، والتدمير في غزة هو من الآلام.
قطاع غزة هو البقعة الجغرافية الوحيدة التي احتفظت بفلسطينيتها بعد النكبة شكلاً وموضوعاً، وهي التي شهدت أول مجلس وطني فلسطيني عام 1948، وأول حكومة فلسطينية، وهي حكومة عموم فلسطين، في ذات العام.
وفي عام 1957 ألغيت السلطة العسكرية المصرية في القطاع، وإنشئت أول سلطة مدنية فلسطينية بإنشاء أول مجلس تشريعي لقطاع غزة.
وفي عام 1962 عين المجلسُ التشريعي أولَ رئيس فلسطيني له، مكملاً بذلك نقل السلطة القانونية من الحاكم الإداري المصري إلى السيطرة الفلسطينية. وفي عام 1962م أيضاً، قام المجلس التشريعي لقطاع غزة بإضفاء صفة الدستور على قانونين أساسيين هما: قانون عام 1955م، والنظام الدستوري عام 1962م، وقد نُشرت كمجموعة واحدة لأول مرة في "صحيفة الشرق الأوسط" عدد شتاء-ربيع عام 1963. وفي قطاع غزة بدأت أول مقاومة فلسطينية بعد النكبة، كان ذلك قبيل عام 1956 وبعيده.
والآن غزة تحترق، فإن كانت إسرائيل قد احرقت الشهيد محمد أبو خضير في القدس قبل أيام، فإنها الآن تحرق غزة أرضاً وبشراً، صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً.
كثرت التحليلات العربية والأجنبية حول أهداف إسرائيل من عدوانها الغاشم الهمجي العنصري على غزة الآن، ولكني من نافذتي، أرى أن الهدف الأساسي لـ"حكماء صهيون" هو قطع العلاقة بين قيادة الشعب الفلسطيني وغزة، لكي تصبح علاقة القيادة الفلسطنية بغزة كعلاقة القيادات العربية القطرية الأخرى بها. ذلك هو السبب الذي كان وراء انسحاب إسرائيل من غزة من طرف واحد دون أن يكون ذلك من خلال التفاوض أو التنسيق مع القيادة الفلسطينية. وكان ذلك هو هدف الاجتياح الإسرائيلي لغزة عام 2008، وكان ذلك هو هدف العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة عام 2012، وكان ذلك هو هدف الحصار الشامل على غزة منذ عام 2007 حتى يوم أمس. وكان ذلك هو هدف إسرائيل يوم أعلنت شكرها للرئيس الفلسطيني على موافقته على المبادرة المصرية، رغم رفض حماس لها، وسيكون هو هدف إسرائيل لقبولها أي اتفاق جديد لوقف إطلاق النار.
وأرى من نافذتي أن رد القيادة الفلسطينية، وأقصد بالقيادة الفلسطينية ليس رئيس السلطة فقط، ولا رئيس وزرائها فقط، بل كل شخص في موقع قيادي، يجب أن يعكس تورّطها في غزة، وليس تعاطفها فقط، لأن التعاطف مع غزة مطلوب من جميع القيادات العربية القطرية، ومن المسؤلين في جامعة الدول العربية.
ومن التاريخ أستحضر همجية النظام العنصري النازي الذي كان يهاجم الأنظمة الرأسمالية، وتحديداً النظام البريطاني والفرنسي العدوّان للاتحاد السوفييتي. رأينا الاتحاد السوفييتي لم يتعاطف مع فرنسا وبريطانيا فقط، بل تورط معهما في الحرب على النازية. ونحن لا نطالب القيادة الفلسطينية بقصف تل أبيب بالصواريخ غير الموجودة، بل نطالب بخطاب المتورط بدلاً من خطاب المتعاطف أو الوسيط.