خاب أمل الجمهور العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً بعد انتظار ممض لرمز صمت طويلاً وعول عليه الناس في كل مكان لكي يضع نهاية لغطرسة إسرائيل ومعاناة غزة وجراحها النازفة على مدار الساعة. بدا للحظة أن الجماهير تتوقع من المقاومة اللبنانية أن تقدم لغزة ومقاومتها ما تقدمة الولايات المتحدة لإسرائيل المتعثرة سياسياً وعسكرياً منذ السابع من تشرين. لكن المقاومة اللبنانية بدورها مقاومة لا أكثر، وهي ليست دولة عظمى على الرغم من معجزاتها العظيمة الكثيرة التي استلهمها أذكياء المقاومة الفلسطينية ليبدعوا أساطيرهم الخاصة.
لقد وقع خطآن إعلاميان كبيران، وكان يمكن تجنبهما دون شك: أولاً لم يكن هناك من ضرورة للفيديو القصير الذي سرب للسيد وهو يمشي أمام العلم؛ ثانياً كان تأخر ظهور السيد مع ما رافقه من لغط كثير من قبل إعلام المقاومة ذا وقع سيء، لأنه خلق آمالاً وتوقعات جماهيرية مضخمة، وغير واقعية بسبب التجييش الغربي الهائل منذ البداية، ليوجه رسالة واضحة بأن لبنان سيكون عرضة لحرب بشعة ومدمرة قد لا يكون الحزب مستعداً لتحمل تبعاتها الهائلة، خصوصاً أن لبنان ذاته ليس مقاوماً بالجملة، وهناك قوى كثيرة ضد المقاومة، وضد فلسطين، وضد العروبة دون لبس أو اشتباه.
كان بالإمكان أن يظهر السيد منذ البداية، ويقول ما قاله ويكون كافياً ومؤثراً وفاعلاً. لكنه جاء متأخراً ليعيد كلام نعيم قاسم وصفي الدين وآخرون عندما كانت الجماهير قد تهيأت لأزيد من ذلك بكثير.
لكن إذا استبعدنا هذه الهنات الإعلامية، لا يمكن تجاهل العناصر الذكية والإيجابية في محتوى الخطاب، فقد جاءت رسالة السيد واضحة وحاسمة: إن غزة ستنتصر لا محالة، ونحن نضمن ذلك.
هل معنى ذلك أنكم ستذهبون فوراً إلى صب عشرات الآلاف من الصواريخ على إسرائيل؟
كلا، لا حاجة بنا إلى ذلك، ولا داعي لجر الدمار على لبنان الممزق اقتصادياً وسياسياً على السواء. لن نفعل ذلك إذا لم يكن هناك حاجة ماسة لا يمكن تجنبها: هذه الضرورة هي التخوف الجدي من أن تضعف المقاومة في غزة إلى درجة أن تتمكن إسرائيل فعلاً من الاقتراب من هلوسات القضاء على المقاومة أو إجبارها على الاستسلام.
ذلك محرم تماماً، بل إن السيد أوضح بشكل لا لبس فيه أن فكرة الإفراج عن الأسرى لدى المقاومة بدون قيد أو شرط هي مزحة سخيفة، وأن أسرى إسرائيل لن يخرجوا إلا بمبادلتهم بأسرى فلسطينيين. ولتفسير ذلك لجمهوره العربي المتعطش للمعركة الواسعة، أوضح السيد أن الأمريكي يتربص بنا في البحر المتوسط وقد جاء منذ اليوم الثاني للطوفان بغرض تهديد المقاومة. وعلى الرغم من ان السيد قد أوضح أن المقاومة قد أعدت عدتها لمواجهة أساطيل الولايات المتحدة، إلا أن الإقدام على هذه المواجهة ليس خياراً حكيماً ما دامت المقاومة الغزية قادرة على الذود عن القطاع وعن نفسها على الرغم من إدراكنا لجسامة المعاناة المدنية. يجب أن لا نغفل هنا عن واقعة قاسية لا مجال لإنكارها: القوى الاستعمارية دائماً ما تلجأ لإلحاق الأذى بالمدنيين لكي تجبر مقاومتهم على الركوع، وينطبق ذلك على فيتنام والجزائر ...الخ بل إن هذا الأسلوب نفسه قد استخدم مع ألمانيا ومع اليابان في حرب 1944 عندما قصف "الحلفاء" المدنيين الألمان وقتلوا حوالي 600 ألف من المدنيين، وكذلك فعلت أمريكا مع اليابان. ومن الطريف أن نتانياهو وأركان حكومته لم يعودوا يجهدون أنفسهم في إنكار وحشيتهم، ويستعيضون عن ذلك بذكر مثال الإرهاب المستخدم ضد المانيا لتسويغ جرائمهم في غزة.
لكن معاناة المدنيين التي تمزق القلب في غزة، لا تساوي انتصار إسرائيل، بل إنها تؤشر ناحية فشل إسرائيل العسكري النسبي في مواجهة المقاومة. ومن الناحية السياسية ستتحول تلك المعاناة إلى جزء آخر من هزيمة الاحتلال عندما تضع الحرب أزوارها، ويبدأ من يبدأ في قراءة الفشل الاسرائيلي العسكري من ناحية، وأيدي إسرائيل الملطخة بدماء الأطفال من ناحية أخرى.
نهاية الخطاب هي مفتاح فهمه: ليست المواجهة الحالية في حجمها الكبير مع إسرائيل فقط، بل إنها بشكل صريح مواجهة تذكر بعدوان 56 أي أنها كفاح ضد الاستعمار العالمي، وتحديداً ضد الولايات المتحدة. ولذلك فإن على محور المقاومة وأصدقائه أن يعدوا العدة لمواجهة الولايات المتحدة، وليس إسرائيل فقط. بوضوح تام، بدا للجميع أن الولايات المتحدة "تحس" أن قاعدة الاستعمار العالمي المتقدمة إسرائيل في وضع مهزوز، ولا بد من إسنادها مباشرة بالقطع الحربية الأمريكية.
ومن اللافت بالفعل أن السيد قد أوضح أن المقاومة مستعدة إن لزم الأمر أن تواجه البحرية الأمريكية.
في هذا السياق الذي يغيب فيه السند العالمي للمقاومة، بسبب تردد الموقفين الروسي والصيني، فإن التفكير في مواجهة واسعة وشاملة قد يكون مغامرة لا تحسن عقباها. ولذلك جاءت فكرة السيد الصحيحة سياسياً عن الانتصار بالنقاط لا بالضربة القاضية. وإذن، ليست المعركة الراهنة معركة نهائية ضد إسرائيل، وإنما هي جولة أخرى تضاف إلى انتصارات المقاومة ونهوض أدائها. عموماً أكدت الصحف الإسرائيلية من الوسط إلى اليمين الارتقاء النوعي المذهل في أداء المقاومة الفلطسينية في غزة. وعلينا أن نتذكر تاريخ القدرات المتواضعة للمقاومة الفلسطينية منذ أيام منظمة التحرير واعتمادها طوال الوقت تقريباً على مواجهات غير مباشرة تجسدت في عمليات تفجير بشكل أو بآخر، أو اختطاف الطائرات سنة 69/70 تحديداً، مع ضعف واضح في مواجهة الجيش الإسرائيلي سواء في عدوان 78 أو 82 وحتى اجتياح 2003 ثم العدوان على غزة 2008 و 2012 و 2014. يتغير الوضع قليلاً سنة 2017/8 ثم نجد تغييراً هاماً ومبشراً في سيف القدس 2021. أما في طوفان الأقصى فيولد أداء فلسطيني يوازي بدون شك، ويذكر بشكل ساطع بأداء المقاومة اللبنانية سنة 2006.
إذن فقد أكد السيد أن "الواقعية" السياسية تقتضي منا أن لا نتوقع انتصاراً حاسماً فورياً ضد إسرائيل، ولكننا فعلاً نراكم الإنجازات، وقد أحببنا في سردنا السريع أعلاه لتغير أداء المقاومة الفلسطينية على امتداد خمسين عاماً أن نبين أن فكرة السيد عن النقاط فكرة صحيحة وتثبتها الوقائع. ولا يجهل الفلسطيني أو الإسرائيلي أو العربي أن أداء "القسام" في طوفان القدس قد جمع عناصر الذكاء والإبداع وحسن التخطيط والتنفيذ المقرونة دون شك بالروح البطولية الاستشهادية.
بالطبع تطبق إسرائيل عقيدة الضاحية (نسبة إلى تدمير الضاحية الجنوبية لبيروت سنة 2006) اليوم على مدنيي غزة بقسوة أشد من أي وقت مضى. ولكن جماهير غزة في معظمها ما تزال صابرة ثابتة محتسبة. ويبدو أن السيد في خطابه مطمئن إلى أن مقاومة غزة لن تهزم. ومن ناحية أخرى كان السيد على الرغم من خيبة آمال الجماهير العربية والفلسطينية واضحاً في تأكيده أن انتصار المقاومة، بل وانتصار حماس تحديداً هو أمر لا مفر منه. وقد بدا أن الرجل واثقاً في قدرات المقاومة الغزية وطرائقها القتالية الجديدة ومستوى تسليحها. على الأرض لا يمكن للمراقب إلا أن يلاحظ خسائر إسرائيل في المعدات، وخصوصاً قدرة المقاومة على تدمير دبابة الميركفا بصوراريخ الياسين وكذلك اعتراف الجيش بمقتل جنوده يومياً مع إدراكنا أن الجيش الإسرائيلي لا يسجل عادة خسائره على نحو دقيق لاعتبارات عسكرية وإعلامية ونفسية مفهومة. سوف تخرج المقاومة الغزية من هذه المعركة الكبيرة منتصرة سياسياً وعسكرياً، وستفتح صفحة جديدة من صفحات الصراع يتوقف فيها الحلم الإسرائيلي بتطهير فلسطين وتطويع العرب، وسيتنادى العالم أجمع إلى عقد المؤتمرات ل "حل" القضية الفلسطينية، وهكذا تكون المقاومة الغزية الشجاعة قد طردت شبح تصفية القضية الفلسطينية، وسجلت نصراً مهماً يمكن المراكمة والبناء عليه في جولات قادمة.