ورود الموسوي
شاعرة عراقية/ لندن
تقولُ وقد أسندت ظهرها للريح واتكأت، كان يدورُ في مكانه كمن يبحثُ عن كِسَرٍ سقطت من بقايا ذاكرته، باحثاً عن حروفه الأولى وهي تسقطُ تباعاً أمام باب بيته وهو يلفظها لأول مرة، عن أصدقاء الطفولة وعن الكرة التي تمزّقت بركلاتهم، هو الآنَ هَرماً وشائخاً لا يملك غير بكاءٍ عقيم، ورائحةُ ماضٍ دسّ مصباحه في جيب العتمة ونام.
هو الحنينُ الذي يُعتّقُ أرواحنا حين يثأرُ منا بالشوق، ويجرُّ أرواحنا خلفه صامتين، كنتُ أفكّرُ ببغدادَ وأنا أحزمُ حقائب العودةِ إلى لندن، كم غريبةٌ هي المدن التي تخنقنا بحبها، وكم آمنتُ برؤيتي حول المدنِ وكم تُشبه النساء، فثمة امرأة يجمعك وإياها حوار عابر لكنها تأسركُ بأناقةِ حرفها وسلاسةِ عبارتها وروحها التي امسكت بتلابيب روحكَ فسكنتكَ هكذا بلا تكلّف، وباتت عالمكَ الذي جاءكَ صدفة، ورُبّ امرأةٍ عشتَ معها عمركَ لكنها الأبعد عن روحكَ بل لم تحاول أنت الانصات لروحها، لا لعيبٍ فيكما بل لأنها كيمياء الأرواح حين تنعجن. كذلك المدن؛ فثمةَ مدينةٌ تدخلها عابراً وبلا قصدٍ للإقامةِ فيها تراها تتشبثُ بتلابيبك وتحتلُّ روحكَ وتسكنك بكل تفاصيلها لتحتلّ ما بقيَ من ذاكرتك، ورُبّ مدينةٍ تسكنها دهراً لكنك لا تتآلفُ معها، بل لا يمكنك أن تنصهر وعوالمها الداخلية أو تمنح نفسكَ فرصة الاقتراب من روحها، هي المدنُ إذن وما تتركه فينا من حنين، هكذا هي بغداد، المدينة التي دخلت حياتي منذ عام واحدٍ فقط لكن سحرها محى عن كاهلي كل المدن التي تربيتُ فيها وكبرتُ ومررتُ فيها منذ طفولتي حين ودعتُ حيّنا البابلي ذات فجرٍ باتجاه الغربة.
ألم أقل أنّ المدنَ نساءٌ امتحنهنّ الله بجمال ما وهبهنّ فرحنَ يغدقنَ على العابرينَ والمقيمين؟ ثمةَ مدينةٌ تكشفُ لكَ عن جرحها وتبتسمُ، لتُربتَ على كتفكَ وتقسمُ لكَ أنّ قادمها الأجمل، هكذا هي بغداد مدينةٌ ضاجة بالحياة مبتسمةٌ رغم تعبها، خلّاقة ومبدعة، وبقراءةٍ واعيةٍ لكل المدن التي تعرضّت للهدم ستراها ضاجةً بالحياة خالقةً للدهشة بجدارة. هكذا أرى غزة التي لم أرها أبداً وكذلك رام الله، هذه الأمكنة المأهولة بالإصرار والعزيمة. هذه المدن التي لا ترضخ لكل الدمار والخراب الذي يحاوله العالم. فتجدها تركل كل تعبها لتقف على قدميها من جديد. إنها الأمكنةُ وما تتركُ من نثارِ روحها على أرواحنا المشدودة بالحنين إليها في كل حين