عندما تم توصيف غزة بأنها أكبر سجن مفتوح في العالم، وقف العالم صامتا لا مباليا. ولأكثر من سبعة عشر عاما، تعامل مع الفلسطيني كسجين صامت هو الآخر، يفتقر إلى كل حيلة قد تمكنه من إسماع صوته. حدد عدو غزة، وبدعم دولي، درجة صوت الفلسطيني محاولاً خفضها إلى ما دون الصمت وبكل وسائل وأدوات السيطرة. حاصر حرية الحركة جوا وبحرا وبرا، وقنن السعرات الغذائية، ولوث الماء، وجرب أسلحته وتطوره التكنولوجي والتقني عليها، وشن حروبا لا تقل بشاعة عن حرب إبادته التي يشنها اليوم هناك. لكن غزة، لم تصمت يوما، ظلت تقارع عدوها، بصمودها أولا في وجهه، وبمقاومتها له وتطوير مقدرات هذه المقاومة في عملية دؤوبة تحفر في جدران الحصار والسجن وتقوضه. ظلت غزة تحاول خلال كل تلك السنوات أن تفرض على العالم أن يسمعها لكنه مع كل معاناتها لم يكن يوما راغبا في الإصغاء لها، حتى فرضت عليه عنوة وفي 7 أكتوبر/تشرين أول 2023، أن يسمعها مشنفا أذنيه ومصيخا السمع.
تمسك غزة اليوم حدثا تكتبه في التاريخ وتحدد طرفيه بداية ونهاية متبعة سياسة القفز والوثب في حلقاته، فهي تقفز من السجن وتثب في القبر لتقفز منه وتثب في الانتصار. ستكون القفزة الأولى مع بداية "معركة طوفان الأقصى" في كسر فكرة الحصار وثبات افتراضات استمراريته واستمرارية فاعليته في تقييد الفلسطيني وهزم ذاته المقاومة. سيذهل العالم عندما يرى المحاصر مظليا يحلق فوق سماء غزة وفوق فلسطين التاريخية، وليصاحبه في هذا التحليق صواريخ المقاومة التي دكت نقاط تجمع العدو ومستوطناتة المحاصرة للقطاع. وسيخرج المقاتل ماردا من وراء السياج العسكري مطيحا به فيدخل برا محررا مغتصبات وأراض كادت تخلق ممرا واصلا ما بين الضفة وغزة.
سينجز الفلسطيني بهذه القفزة العالية أهم انتصاراته في "معركة طوفان الأقصى"، حين تمكن من أن يقول بصوت عال، خرج هذه المرة من السماء هجوما على آذان المصابين بالصمم الإرادي، وسريعا على الأرض خارجا من حدود الحصار وقصر مدى الإبصار ففقأ عمى العيون، قائلا بأن استعادة فلسطين التاريخية، ولو لفترة زمنية لم تتجاوز الساعات، هي انتصار لمقولة أن استعادة فلسطين ممكنة. وهي في الوقت ذاته مقولة تكسر حصار السياسي الفلسطيني لممارسة السياسة، وتحرر فلسطين من كونها رهينة السياسي الرسمي ومبدئيته المتجذرة في استحالة فاعلية الفلسطيني المقاوم واستبعاده واختزال السياسة في الواقعية التفاوضية والدبلوماسية. ستكون المقاومة فن الممكن من المتحقق، عبر تكريسه مرات ومرات لن تتوقف إلا بانتصار. بل إنها انتصارٌ لمقولة مضادة إن لم تكن هي المقولة الأولى والأبقى، قبل أن تعمل الرسمية الفلسطينية على محاولة طمسها، وهي أن استعادة فلسطين التاريخية، لا يمكن أن تتحقق إلا بإيمان الفلسطيني بفعل مقاومته كفعل تحرري. وهو إيمان بحلم أول وخطاب أول تبناه الثائر الفلسطيني الذي نادى بفلسطين كاملة من بحرها إلى نهرها وطنا له، فعلا متكاملا قابلا للإنجاز دون اجتزاء أو مرحلية.
نكسر غزة حصار السياسي الفلسطيني لممارسة السياسة، وتحرر فلسطين من كونها رهينة السياسي الرسمي ومبدئيته المتجذرة في استحالة فاعلية الفلسطيني المقاوم واستبعاده واختزال السياسة في الواقعية التفاوضية والدبلوماسية.
ستكسر هذه القفزة حلقة الصمت أيضا في نطاق العلم والمعرفة حول ما تسبب في سكوت التاريخ والعالم عما يحدث في فلسطين منذ 75 عاما، سيتم التشكيك من جديد، ومن على أرض المعركة، بالمعرفة الغربية، ليحل التشكيك بدل اليقين والتعالي اللذين تفرضهما على كل أشكال المعرفة الأخرى. وليكون السؤال الشائع الذي يريد ترويج اليقين المعرفي حول فلسطين والفلسطينيين في سؤال يقزم التاريخ في حلقة واحدة من حلقاته بدأت في 7 أكتوبر/تشرين أول، ولتلخصه في سؤال أبتر ومبتسر: "هل تدين حماس؟" شكلا من أشكال هذه المعرفة المنحازة التي تفقد موضوعيتها العلمية. وكأن إدانة حماس هي إدانة لكل سؤال عن العودة إلى السؤال المعرفي الأصلي عن فلسطين، أي ما الذي حدث في فلسطين فتسبب في حدوث ما يحدث في 7 أكتوبر؟ سيخلق انتصار "معركة طوفان الأقصى"، بلبلة على مستوى السؤال المعرفي، لأنه خلق بلبلة على مستوى الخطاب الرسمي والإعلامي الغربي عندما وسع تلك الفجوة بين ما يلقنه هذا الخطاب لجمهوره وبين ما يراه هذا الجمهور من صور أخرى، وما يسمعه من أخبار أخرى، تأتي من قلب المعركة خارج أسوار الرسمية والإعلام الغربي المقيدين بخطوط حمراء حددتها الرواية الصهيونية وفرضت سطوتها عليهما. ستعود فلسطين إلى قلب العالم، تجوب شوارع العواصم الكبرى التي منحت اليهود وعدا مزيفا بـ"أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، فيسقط الوعد أمام الحقيقة التي لم تمت لأن شعب الأرض حي يقاوم، تراه اليوم كل شعوب العالم وتحاول نصرته. بل تتماهى من جديد مع إنسانيتها ومع مظلوميتها التاريخية هي الأخرى كما فعل سكان جزيرة السلحفاة الأصليون في شوارع الولايات المتحدة، وكما فعل شعب الماوري، السكان الأصليون لنيوزيلندا، وكذالك السكان الأصليون لكندا، وكما فعل كل من حاول قراءة التاريخ من جديد من مصادر مختلفة.
لم يستوعب العدو حجم القفزة التي حققتها غزة خارج السجن، فأعمل كل آلة الحرب وترسانتها المدمرة في خاصرة غزة الضعيفة: مدنيُّوها. فكان القرارا بتحويل كل فلسطيني حي إلى ميت هو القرار الذي يريد تغيير وجه غزة من سجن إلى قبر. وكأن حياة الفلسطيني لا يمكن أن تكون إلا بين قوسين يفتح أحدهما قضبان الزنزانة ويقفلها عليه قوس من تابوت. فُتحت غزة على مصراعيها لتتحول إلى قبر مفتوح، يدفن فيه الصغار والأجنة والخدج والنساء والرجال، وفي كل مكان قد يكون صالحا للدفن، أو مكانا محتملا للدفن، قد يكون تحت الركام، أو في مقابر جماعية، أو في باحات المشافي، أو ساحات البيوت، أو حتى بقائهم جثامين مكشوفة أمام الأعين على قارعة الطرقات. سيحاصر العدو المستشفيات ليحصار الفلسطيني حتى آخر نفس، وحتى آخر رغبة في الحياة، أو حتى آخر تفكير محتمل في الانتصار. ستصبح المشافي أهدافا، وثكنات عسكرية، يخرج منها الموت معلنا انتصاره على حياة الفلسطيني. وهو ما لن يتحقق إلا إذا تحققت مقولة المستعمر المستحيلة في هزيمة كل فلسطيني في غزة أو خارجها قادر على أن يحمل معه ذاكرته عما يحدث اليوم من إبادة وتطهير عرقي، أو كل فلسطيني قادر على التوثيق أو الكتابة عما يحدث الآن واصلا صوت غزة بصوت الحياة، بصوت الحضور القوي المتحقق في الضمائر، وإنسانية من يعترفون بإنسانيتهم عندما يعترفون بمظلمة الفلسطينيين التاريخية.
من قفزة خارج السجن إلى وثبة داخل القبر يتمدد الحدث حتى حده الأقسى موتا لا يشبهه موت عندما يكون موثقا على الهواء مباشرة، تبكي أمامه القلوب والعيون. لكنه موت برسم الانتصار ولن تسمح له غزة إلا أن يكون كذلك، فلن ترضى غزة بأن تسجل قفزتها النوعية في سجل الهزائم. ولن تسمح بأن يكون جرحها الغائر إلا جرحا بمرتبة انتصار، وانتصار لا يُنسى، بل يخالف كل "جرح طفيف في ذراع الحاضر العبثي"، ولا يترك للتاريخ مجالاً لا للسخرية من ضحاياه ولا من أبطاله، فلن يأتي بعد اليوم تاريخ على غزة يلقي عليها نظرة ويمر.