الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الخوارزميات وسلوك القطي/ بقلم: ناجح شاهين

2023-11-19 09:05:44 PM
الخوارزميات وسلوك القطي/ بقلم: ناجح شاهين

 

ملايين العرب، محامون وأطباء ومهندسون ومثقفون وأساتذة جامعات وشعراء وروائيون يستعينون بتميمة الخوارزميات لفك لغز ظهور المنشورات واختفائها. تضاف إليها بالطبع قصص قديمة عن تحذير إدارة الفيس بوك من استخدام صورنا أو معلوماتنا الشخصية تحت طائلة التهديد بمعاقبة مارك وإحضاره إلى ساحة العدالة مخفوراً مكبل اليدين معصوب العينين. يا للهول! كيف يحدث هذا في لحظة غزة الرهيبة؟ أين يذهب العقل البشري الذي يميزنا عن الكائنات الأخرى على حين غرة؟! لروح أرسطو طاليس السلام ولذكراه الخلود: الإنسان حيوان ناطق (=عاقل)، فإذا ذهب العقل ما عاد هناك سوى كائن ثديي عادي. لكن كيف يحدث هذا بينما تقوم إسرائيل برعاية الولايات المتحدة وأوروبا، ومباركة رجال من طراز يورغن هابرماس خليفة مارتن هيدجر بإبادة غزة؟! حرفياً تقوم بإبادة غزة، ولا نستطيع نحن والقانون الدولي ومحاكمه ومؤسساته أن نفعل لها شيئاً. فما الذي ستفعله صديقي الفنان، العالم، المثقف، الأكاديمي، بحق مارك زوكيربرغ؟ إذا كنا لا نملك شيئاً لقصف المدارس والمشافي والمساجد والكنائس والبيوت المدنية ومصادر المياه والاتصالات والكهرباء، فماذا سنملك لمخالفة بسيطة يمكن أن يقوم بها مارك من قبيل نشر صورتنا المنشورة أصلاً أو تمرير معلومة بسيطة عنا؟ هل يستحق مارك الشنق على هذه الجريمة؟ وهل ستسارع مؤسسات الاتحاد الأوروبي لنجدتكم إن احتجتم النجدة؟ هل بلغ الغرور بنا أن نظن أن صورتنا الشخصية أهم من دماء أطفال غزة وجنين ونابلس وسائر مدن فلسطين وقراها ومخيماتها؟ كيف يخطر ببال أحدنا أن هذا الكلام يمكن أن يحمل أي مقدار من الجدية؟ ثم هناك ملاحظة مدهشة بالفعل: هناك أشخاص كثر نشروا "بيان" الخوارزميات ثم أتحفونا بمنشور تحذير الفيس من استخدام الصور والمعلومات، لكن اليوم تحديداً دخل الإشاعة مفهوماً جديداً فحواه أن هناك رموزاً معينة تكتبها على صفحتك كالتميمة ويكون لها سر السحر الباتع وينفك "العمل" بإذن الله لتجد نفسك في نعيم الفيس بدون قيود ولا مخاطر. الغريب أن الأشخاص الذين استخدموا "الحجاب" الأول عادوا إلى استخدام المنشورات الأخرى، وهو ما يدل على أنهم لم يستفيدوا من المحاولة الأولى فلجأوا إلى الوسائل الأخرى. بهذا المعنى فإن الإشاعة تتلاعب بالناس كما تهوى وتحركهم على غير هدى. وما كنت لأكلف نفسي عناء الكتابة في هذا الموضوع لو أن "العامة" على حد تعبير جدي ابن رشد هم وحدهم من فعل ذلك، ولكن نسبة ساحقة من النخب تقوم بهذا الفعل العجيب.

لكن ما الذي يدفع الناس إلى الركض وراء هذه الإشاعات: 1. الرغبة في القيام بفعل "نضالي" ما. نحن نعيش في حالة عجز تجاه واقع كفاحي بطولي ومأساوي في آن معاً. ولعل من المريح نفسياً أن نحس بأننا نفعل شيئاً ما يؤثرفي الواقع الافتراضي ما دمنا لا نؤثر في الواقع الحقيقي المعاش، والذي نهرب منه إلى التعليق والصورة التي توهمنا بالمساهمة فيما يحدث حتى لو كان ذلك بمنشور "نضالي" يخالف إرادة مارك الخبيثة.

2. إدمان وسائط التواصل الاجتماعي إلى درجة أن الناس تظن أنها تعيش مأساة كبيرة إذا تم تقييد الحساب أو ما أشبه. وقد قام عدد من صديقاتي وأصدقائي بتقديم العزاء والمواساة لي عندما أغلق التكتوك الصيني حسابي بعد أن تكررت كلمة غزة في منشوراتي أكثر مما يحتمل مجتمعهم المتسامح الذي يحب المرح ولا يحب كما قالوا الأفكار المؤلمة أو التحريضية..الخ.

3. تقليد الناس بعضهم لبعض وقراءتهم للكلام بحرفية ساذجة. مثلاً "الآن لقد ثبت للجميع، أو تأكد الجميع...الخ" من هو الذي ثبت له؟ لقد سألت صديقات وأصدقاء عن ذلك فقالوا إنهم إنما ينسخون ما يجدونه لدى الآخرين. لكن ما هو المصدر الأول وصاحب الامتياز؟ لم يفكر أحد منهم أن إدارة فيس بوك هي المصدر الأول لهذه الخزعبلات، وأنهم يسخرون من سذاجة العرب ومن ابتلاعهم لأية إشاعة تطلقها إدارة الفيس بوك دون أي تردد، بل لقد سمعت أن دراسة معينة نفذتها إدارة الفيس كشفت أن نسبة 80 في المئة ممن يروج خراريف الخوارزميات وتمائمها هم خريجو جامعات، وأن عشرة في المئة منهم من حملة الدرجات العليا. إن إدارة فيس بوك للاسف تحيلنا إلى فئران تجارب وتستهلك وقتنا واهتماماتنا في مواضيع ملفقة لا قيمة لها، وفي الوقت نفسه تبعدنا عن المواضيع الساخنة في هذه اللحظة التي ينبغي أن تكون موضع متابعتنا الأولى.

4. من المعلوم للقاصي والداني أن إدارة فيس بوك تتعاون مع الأجهزة الاستخبارية والأمنية بما فيها وكالة التحقيقات الفيدراية ووكالة المخابرات المركزية والوكالات الصديقة في إسرائيل وغيرها. ولست أعرف كيف تكون محاسبتها على فعل "قانوني" تقوم به، ولست أعرف أبداً كيف سأعرف بأنها سربت معلوماتي لأية جهة، فأنا أصلاً لا أفقه الكثير حول طريقة عملها ناهيك عن السيطرة على "خوارزمياتها" العجيبة التي أظن أن كثيراً منا يمكن أن يظن أنها من اختراع عالمنا الكلاسيكي الخورازمي.

5. هناك ما يشي بأن "الجميع" يركضون وراء الإشاعة بدون التوقف للتفكير في معنى الكلمات أو مدلولاتها. وهذا يعني ببساطة أن أحدنا يشاهد منشوراً لتحذير الفيس عند أحد معارفه فيقوم بنسخه كما هو. أصلاً هناك في المنشور دعوة تحثك على نسخ المنشور من أجل حماية نفسك...الخ إن هذا الركض خطير وينم عن سيطرة سلوك القطيع لدى الجميع، وهو ما يكشفه تسويغ البعض لسلوكه بالقول إنه لا يخسر شيئاً إذا كان الموضوع زائفاً، وإنما يؤمن نفسه، وللأسف يفشل هذا التسويغ في ملاحظة أن الشخص في الحقيقة وقع في الفخ وانتهى الأمر بقيامة بالنشر لأن ذلك هو المقصود الوحيد من هذه الإشاعة.

6. هذه الظاهرة موجودة منذ عشر سنوات تقريباً وقد لاحظنا أنها تنتعش وقت الأزمات والحروب والمواجهات الحساسة في المنطقة كأنما هناك من يحركها عمداً لحرف اتجاه الاهتمام عن موضوع معين مثل جرائم الصهيونية حالياً في غزة التي تقاوم بشجاعة نادرة وتحتاج أي شكل من أشكال الدعم مهما كان متواضعاً.

سلوك القطيع يلغي القدرة على التساؤل والمحاكمة العقلية التي تسعف المرء ليطرح أسئلة من نوع: ما هي الخوارزميات؟ وهل لها علاقة حقاً بأن يرى الناس المنشورات أو يتفاعلوا معها؟ ولماذا يكون هناك طريقة عجيبة تسمح لنا باختراق خطة إدارة الفيس بوك بهذه البساطة؟ ولماذا تقوم أصلاً تلك الإدارة بمحاولة حجب منشوراتنا بتلك الطريقة الغامضة؟ وهل نحن خطرون إلى هذه الدرجة؟ وماذا سيحدث للناس إن لم يشاهدوا منشوراتي العظيمة؟ إذا كان يورغن هابرماس ظاهرة الفلسفة الألمانية "اليسارية/الأخلاقية" الكبرى ضد فلسطين، ومع ذبحها، فما قيمة النشر بالله عليكم؟! ومن ناحية تحذير الفيس من نشر معلوماتنا أظن أن من لدية القليل من القدرة على التفكير يستطيع أن يدرك أن الماكينة الامبريالية التي تذبح أطفال غزة في محرقتها الرهيبة دون خوف من قانون مدني أو دولي أو إنساني لن تخشى من محاسبتها على تسريب معلومات "خطيرة" عن علاقة غرامية بين صبحي وصبحية أو ياسر ويسرية هذا إن كانت إدارة الفيس أو غيرها يهتمون أصلاً بمعلوماتك أو معلوماتي الشخصية اللهم ما يهم الشركات التي ترغب في ترويج منتجاتها الاستهلاكية.