ما انفكت حكومة الحرب عن اختراع رواياتها المفبركة منذ السابع من اكتوبر، مستندة في تمرير تضليلها وترويج أكاذيبها إلى تغطية وشراكة العواصم الغربية، وخاصة البيت الأبيض والرئيس بايدن نفسه. فمن افتراءات "قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء" التي و رغم سقوطها المدوي وفضح زيفها أمام الحقائق التي اكتشفتها وأعلنت عنها الصحافية التي وقعت بخديعة ترويجها، فما زالت الدعاية "الچوبلزية" تروجها بوقاحة غير مسبوقة، كما يواصل الرئيس بايدن ابتلاع أكاذيب حكومة الحرب ويروج لها، وإن كان أحياناً برسائل متناقضة في محاولة للتغلب على المعارضة الشعبية المتنامية في العالم بأسره، بما في ذلك في المدن الأمريكية الكبرى. فمن ناحية كان قد حذر من اقتحام المستشفيات، وسرعان ما عاد ليردد وجود معلومات استخبارية تؤكد وجود مراكز قيادة للمقاومة تحت مستشفى الشفاء، مبرراً لجيش العدوان الهمجي اقتحامه والسيطرة عليه، واخلاء مرضاه والمصابين بجروح خطيرة وطاقمه الطبي قسراً ليتحول إلى مقبرة وفقاً لوفد منظمة الصحة العالمية التي زارت المشفى لمدة لا تزيد عن ساعة. هذا في وقت لم يشفع وجود عشرات الخُدَّج في حضاناتهم عن المضي بهذه الجريمة، وبالتالي وفاة بعضهم قبل نقلهم إلى مشافي خارج القطاع ،بينما ينشغل جيش الاحتلال في فبركة معطيات علّها تمكنه من تبرير هذه الجريمة البشعة. قصف واحتلال وتخريب واخلاء "الشفاء" ليست الجريمة الوحيدة ولا الأولى ضد مشافي القطاع، وهي تعيد للأذهان قصف المستشفى الأهلي المعمداني و ارتكاب مجزرة ذهب ضحيتها ما يزيد عن خمسمائة من المدنيين الأبرياء غالبيتهم من الأطفال والنساء الذين كانوا قد نزحوا إلى باحات المشفى، معتقدين أنه مكان آمن . ونذكر كيف حاولت حكومة الحرب الصاق هذه الجريمة البشعة لصاروخ فلسطيني " أخطأ مساره"، كما نذكر كيف حاول الرئيس بايدن أن يبرأ مجرمي الحرب الاسرائيليين من هذه الجريمة الوحشية، قبل أن تفندها صحيفة النيويورك تايمز، كما فندت مؤخراً ادعاءات الكذب بوجود سلاح في "الشفاء"، دون أن يعود رئيس أكبر دولة عظمى على تصحيح إن لم يكن يجرؤ على الاعتذار على تصريحاته التي حاولت يائسة التغطية على هذه الجرائم .
في كل الأحوال، فإن الحرب على مشافى "مجمع الشفاء، والقدس، والأندونيسي، والوفاء، والرنتيسي، ومجمع مشافي النصر والعودة"، وغيرها من المشافي والمراكز الصحية، التي خرجت من الخدمة "25 مستشفى و 52 مركزاً صحياً، والعشرات من سيارات الإسعاف"، هي حلقة متصلة في سلسلة جرائم الابادة والتهجير، بالإضافة لقتل 201 من الكوادر الطبية بين طبيب وممرض ومسعف، و قتل 22 من رجال الدفاع المدني وهم يحاولون البحث عن 6600 مفقود بينهم أربعة آلاف طفل وامرأة، وكذلك القتل المتعمد لستين صحفياً في محاولة لاغتيال حقيقة جرائمهم المنظمة ضد الشعب الفلسطيني، والمنظومة الصحية في قطاع غزة. آخر الاحصائيات الرسمية حتى صباح الاثنين تؤكد أن عدد القتلى بلغ أكثر 13 ألف شخص، بينهم أكثر من 5500 طفل، و3500 امرأة"، كما ارتفع عدد الجرحى إلى حوالي 30 ألف إصابة معظمها اصابات بالغة وخطيرة، أكثر من 75 % منها من الأطفال والنساء.
مؤشرات هذه الاحصائيات والصمت عليها
في وقت أن حكومة الحرب تواصل ادعائها باعتبار جنوب وادي غزة منطقة آمنة، وتضغط بالقتل والتدمير لتهجير سكان مدينة غزة وشمالها قسرياً، فإن المجازر تشمل كل بقعة في الجنوب والشمال، مع فارق أن العملية البرية ما زالت تدور في بعض أحياء مدينة غزة والشمال، حيث تجاوز نسبة الشهداء في الجنوب ما لايقل عن 45% من الضحايا وهي نسبة تتجاوز الفارق في نسبة عدد السكان بين المنطقتين.
اذاً؛ يبدو واضحاً أن المليوني وثلاثمئة ألف فلسطيني في القطاع هم أهداف مباشرة لماكينة القتل الهمجية، وما استهداف وتعطيل المنظومة الصحية، سوى لضمان تَمكين عقلية الانتقام الجبانة من قتل وابادة أكبر عدد من المدنيين، الذين برر الرئيس الاسرائيلي قالهم بقوله " لا يوجد مدنيون في غزة" مضيفا "ليس صحيحا أن المدنيين غير ضالعين في الأمر” من خلال عدم الانتفاض ضد نظام حماس في غزة، كما دعى وزير ما يسمى بالتراث إلى ابادتهم دفعة واحدة بقنبلة نووية، كذلك ردد وزير الحرب جالانت أن سكان القطاع مجرد "وحوش بشرية" يجب القضاء عليهم .
هذا التحريض على القتل لم يوقفه كشف صحيفة هآرتس بأن غالبية المدنيين في "حفل رعيم" لقوا حتفهم جراء قصف جوي من مروحية حربية اسرائيلية، كما أكدت بعض الصور التي نُشِرت ابادة عشرات وربما مئات سيارات هؤلاء المحتفلين بصواريخ تلك المروحيات الحربية. هذه الجريمة المزدوجة استخدمتها حكومة الحرب لتبرير جريمة الابادة المفتوحة بعقلية انتقامية مريضة.
التهجير :الخطة الوحيدة لحكومة الحرب
الخطة الوحيدة التي يجري تنفذها بمنهجية متواصلة هي أن حكومة الحرب تستهدف القضاء على كل مظاهر الحياة في القطاع تمهيداً لتهجير سكانه، كما أفصح عن ذلك مسؤولون اسرائيليون، وأيدهم الفاشي سموتريتش بالدعوة لما أسموه " بالهجرة الطوعية" لتشريدهم في مختلف دول العالم. وهذا فقط ما يفسر تدمير المشافي والبنية التحتية المدنية من مساكن ومدارس ومراكز ايواء تابعة للأمم المتحدة، ومؤسسات الخدمات الأخرى، بما في ذلك المياه والكهرباء والاتصالات ومستودعات الأدوية، كي لا يكون خياراً حتى بعد توقف الحرب، وانعدام سبل الحياة في كامل القطاع، سوى التعامل مع هذه الكارثة الانسانية بفرض التهجير القسري. وما ادعاء وجود مناطق آمنة في الجنوب سوى لتمرير هذه الخطة على مراحل كنتيجة لحرب التدمير والابادة، بعد أن تعثر تنفيذها كمدخل لهذه الحرب المستمرة.
هذا يكشف المواقف الغامضة للادارة الأمريكية التي تدعي رفضها للتهجير، و استمرار احتلال القطاع، أو قضم أجزاء من الشريطين الشمالي والشرقي منه، بينما هي تدرك أن السبيل الوحيد لمدى صدقية هذا الموقف هو وقف هذه الحرب، وهو الأمر الذي ما زالت واشنطن ترفض الاستجابة له رغم اتساع المعارضة الدولية على الصعيدين الشعبي والرسمي، بما في ذلك داخل الولايات المتحدة نفسها.
حرب الابادة والتهجير في القطاع تترافق مع استمرار مخططات القتل والتوسع الاستيطاني والضم واطلاق ارهاب المستوطنين ضد شعبنا في الضفة الغربية .والسؤال ماذا تنتظر قيادة السلطة كي تراجع مواقفها المتأرجحة بين الصمت واللهاث وراء كلام تنقصه المصداقية بالحديث الأجوف عن ما كان يُسمى بحل الدولتين، والذي ينقضه الصمت على مخططات إبادة القطاع وضم الضفة.
أمام العجز العربي والتواطؤ الدولي ليس أمامنا سوى توحيد جهودنا في معركة البقاء والمصير، لوقف العدوان والتصدي لكل نتائجه السياسية والميدانية . فمتى ستستجيب ما تسمي نفسها "قيادة" لهذا الشعب الذي يواصل صموده ونضاله الأسطوريين ؟ وبالتأكيد فإنه يستحق قيادة وطنية موحدة منتخبة، وقادرة على صون مكانة قضيته وتضحياته الهائلة، وتعيد بناء مؤسسات الوطنية الجامعة وتستعيد دورها لقيادته في دحر الاحتلال وانتزاع حريته وممارسة حقوقه الوطنية وفي مقدمتها حقه في العودة وتقرير المصير والسيادة والكرامة الوطنيتين؟!