السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

غزة في الحسابات الإقليمية والدولية| بقلم: ناجح شاهين

2023-12-04 11:29:20 AM
غزة في الحسابات الإقليمية والدولية| بقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

شهدت المنطقة العربية ثلاثة حروب واسعة في العقود الثلاثة الأخيرة، ويشمل ذلك العراق وسورية وغزة. امتازت هذه الحروب بامتدادها ووحشيتها وتضافر قوى وجهود دولية وإقليمية واسعة بأشكال مختلفة قتالية ولوجستية أو سياسية. ولعل من الملاحظ أن القوى المتحالفة ضد العراق هي نفسها التي عملت ضد سورية، وهي نفسها التي تعمل ضد غزة ربما مع اختلاف بسيط في درجة وضوح الدور القطري في الحالتين العراقية والفلسطينية. وكما نعلم فقد احتل الأمريكي العراق ونفذ ضد المقاومة التي وقفت بوجهه حرباً وحشية جسدتها عمليات الفلوجة التي تذكر بتدمير وارسو من قبل النازيين. كذلك يشن الاحتلال الإسرائيلي هجمات مشابهة لا تميز المدنيين ولا تكترث لحياتهم، وربما تهدف تحديداً إلى قتلهم بغرض التكفير والتهجير.

بعيداً عن لوحة الحرب التفصيلية من الداخل، يبدو لنا استقرائياً أن العنصر الحاسم في امتياز الحالة السورية ضمن الحالات الثلاث هو الدور الروسي. فقد أخذت روسيا دوراً واضحاً وصريحاً في دعم سورية مما مكن محور إيران/ حزب الله من أن يتقدم مباشرة ويأخذ دوره في تلك المسيرة من القتال الطويل، وهو ما أسهم بشكل بارز في حماية سورية وصون وحدتها وبقاء دولتها على الرغم من شراسة الهجمة وضخامتها، وهي هجمة اشترك فيها مئات الآلاف من "المجاهدين" المدعومين من الولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج المختلفة.

نود في هذا المقال أن نركز على الاحتمالات الواقعية لتقدم روسيا لمساعدة غزة وبالتألي إعطاء الضوء لإيران والمقاومة اللبنانية للتدخل بشكل أكثر فاعلية لدعم غزة علماً أننا نفترض الآن بوضوح أن أي تدخل حقيقي من قبل إيران وحلفائها لا يمكن أن يحدث في مواجهة الحلف الأمريكي/الصهيوني/العربي إلا بمباركة صريحة من روسيا، مع إدراكنا أن قدرة الصين الدولية ما تزال محدودة للغاية.

بالطبع ليس هناك الآن في مستوى النخب السياسية من يجهل ما يحدث. في هذه اللحظة انكشف للجميع أن هناك حرب إبادة فعلية تمارس في غزة بغرض تغيير الواقع السياسي على الأرض نهائياً واستكمال ما فشل فيه الأب المؤسس دافيد بن غوريون. في مقابل ذلك ارتقت المقاومة الفلسطينة إلى مستوى عال فعلاُ في إتقانها لتقنيات حرب العصابات بما تتطلبه من ذكاء وشجاعة وتضحية وإبداع. وهو ما قد يشجع الأقطاب الكونية على التقدم لمد يد العون بما يخدم مصالحها. لكن ذلك لم يحدث حتى اللحظة. ونود هنا قراءة اللوحة الكونية مع إبراز أهم العناصر المؤثرة فيها. بداهة ليس من مكان لدولة بوتام في قراءتنا لأنها لا تؤثرفيما يجري بأي شكل، وينطبق ذلك حتى على دول عربية من قبيل البحرين والصومال وليبيا وربما سورية التي لا تستطيع فعل الكثير في سياق التأثير الفعلي سياسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً. لذلك نود هنا أن نركز على قراءة المواقف التي نظن أنها مهتمة بما يجري وقادرة على التأثير في الصراع من الناحية الفعلية.

أ‌. في المستوى الدولي
أولا: الموقف الصيني
في سياق نقدها للعدوان على غزة، ترفع الصين صوتها عالياً بما يشبه الطريقة التركية، ولكنها لا تفعل أكثر من ذلك، وتلتزم بأدوات الدبلوماسية وحدها بما في ذلك مؤسسات الأمم المتحدة، وتكتفي عموماً باستغلال العلاقات الصينية مع الدول المختلفة من أجل المطالبة بوقف النار في غزة. لكن السؤال بعيداً عن الموقف العلني "الأخلاقي/الاستهلاكي" لأية دولة، يظل مرتبطاً بالمصلحة السياسية: هل تتضرر الصين من العدوان على غزة؟

يصعب علينا أن نجد الأدلة على ذلك، إذ أن قيام إسرائيل بإخضاع غزة أو طرد سكانها أو الإجهاز على مقاومتها لن يؤثر بأي شكل مباشر على مصالح الصين السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية. ويصعب علينا في واقع الحال أن نجد أية طريقة تنزعج فيها الصين من إسرائيل بما هي دولة صغيرة "ناجحة" في منطقة "الشرق الأوسط". أصلاً لا يوجد عدو جدي للصين حالياً إلا الولايات المتحدة التي تبذل الوسع والطاقة لكبح جماح المشروع الصيني الرامي إلى وراثة أمريكا، أو على الأقل مشاركتها الهيمنة الكونية بصيغة أو بأخرى. وليس من الصعب في هذا السياق أن نتخيل أن الصين لن تجد غضاضة في تبني إسرائيل إذا رأت أن ذلك يمكن أن يخدم مشروع الصعود الكوني الصيني. هذا استراتيجياً، أما في اللحظة الراهنة فإن علاقات الصين مع السعودية والإمارات تمثل أهم العلاقات في هذه المنطقة باعتبار المصالح الواسعة التي تربطها بهاتين الدولتين النفطيتين الاستهلاكيتين: إنهما مصدر الطاقة الصيني الأكبر، وهما سوق كبير للمنتجات الصناعية الصينية. ربما من هذا المنطلق بذلت الصين جهداً كبيراً في محاولة التقريب بين هؤلاء وبين إيران الحليف السياسي القليل الأهمية من النواحي الاقتصادية. لا يمكن للموقف الصيني أن يخرج إذن عن السقف السعودي الداعي شكلياً إلى وقف الحرب. ولعل من المفيد أن نشير هنا إلى أن انشغال الولايات المتحدة بالصراع في فلسطين يشكل عامل إلهاء وإشغال عن شرق آسيا، وبالتالي يفسح المجال للصين للقيام بأشياء كثيرة سياسية أو عسكرية لترتيب الأوضاع فيما يخص تايوان وغير ذلك من ملفات. ولعل من المزعج التفكير بأن الصين قد تكون مستفيدة من بقاء الصراع في غزة لأطول وقت ممكن.

ثانياً: الموقف الروسي
من البدهي أن روسيا قد تنفست الصعداء منذ بداية المواجهة الحالية في غزة. وليس سراً أن الاهتمام الغربي الأمريكي والأوروبي قد تحول ناحية إسرائيل لدرجة أن زيلنسكي بدأ يشتكي علناً من تخلي الأصدقاء الغربيين عن أوكرانيا وصولاً إلى مطالبة أهل بلاده بالخروج في حرب شعبية واسعة ضد روسيا لاستعادة الاهتمام الغربي بهم. هذا الأمر يدفعنا إلى القول إن روسيا تستفيد من مواجهة غزة وأن لا مصلحة فعلية لديها في توقفها مهما كان خطابها العلني معاكسا لذلك. ولعل الموقف الروسي هنا لا يخلو من الدبلوماسيات المعتادة من قبيل ضرورة حل القضية الفلسطينية على أساس فكرة الدولتين مع المطالبة المنحازة ضد حماس لكي تطلق سراح الأسرى الإسرائيليين دون قيد أو شرط. ومن المهم في سياق روسيا أن نتذكر أن جزءاً لا يستهان به من سكان إسرائيل من أصول روسية، بل إن الأسرى الروس هم من هذه الفئة دون شك.

للاعتبارات أعلاه تتعايش روسيا بشكل جيد مع العدوان على غزة، وتحرص في الوقت نفسه على عدم توسع الحرب بما يمكن أن يشمل تهديد مصالحها في سورية أو حتى تورط حليفها الإيراني في حرب مع الولايات المتحدة قد تضطرها إلى المشاركة بشكل أو بآخر.

ثالثاً: الولايات المتحدة وأوروبا الغربية

بدون أية فذلكات وتحليلات معقدة لا حاجة لها من الناحية النظرية، تظل إسرائيل حتى إشعار آخر رأس الحربة في المشروع الاستعماري العالمي. وما نزال جوهرياً في لحظة نابليون وهو يقترح إقامة دولة اسرائيل، أو لحظة بلفور أو لحظة العدوان الثلاثي ...الخ. ومن هنا استنفر الغرب الاستعماري الأبيض كله لنجدة إسرائيل عندما صدمته وقائع السابع من تشرين.

ب. في المستوى الإقليمي
أولاً: تركيا
تلعب تركيا أوراقها بحكمتها المعتادة بحثاً عن تعظيم الدولة التركية اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً. تظل غزة وفلسطين كلها بالنسبة لتركيا اردوغان، ورقة عاطفية تستغل لتعزيز مواقع القائد والحزب دون أن تعني لها سياسياً اية أهمية جدية. ومثلما هو الحال مع الصين وروسيا، لن تخسر تركيا أي شيء مباشر من هزيمة المقاومة أو من عودة اسرائيل الى احتلال غزة مباشرة أو تهجير سكانها. لذلك اكتفت تركيا بالصراخ في وجه اسرائيل دون إيقاف الأنشطة التعاونية المعتادة. ولا بد هنا من ملاحظة أن تركيا تمتلك أقوى الأدوات الفعلية للتأثير في الموقف الغربي والإسرائيلي بما لديها من إمكانيات عسكرية هائلة، وبما لديها من وضع سياسي اعتباري وفعلي لا يمكن التضحية به من قبل الغرب بسهولة. تركيا دولة أطلسية كبرى، وهي المساهم الثاني في الأطلسي بعد أمريكا، ولذلك بإمكانها مبدئياً التلويح بأشياء كثيرة صغيرة وكبيرة لدفع أمريكا إلى تغيير مواقفها من فلسطين، ولكنها لا تجد الأمر ضرورياً. بالطبع يمكن للمقارنة بين الأداء التركي في سورية والعراق من ناحية، وفلسطين من ناحية أخرى أن يضيء على الفارق الهائل في توظيف الإمكانيات بما ينبئ بوجود اختلاف جوهري في الموقف التركي في الحالتين. يمكن لتركيا بحسب اللوحة أعلاه أن "تحتمل" العدوان على غزة وقتاً طويلاً مع الاكتفاء باستخدام ما يجري من مذابح ورقة للتعبئة الجماهيرية للحزب الحاكم ورئيسه عن طريق الخطاب العاطفي الشعبوي بما يعطي إردوغان مظهر البطل الإسلامي الجسور دون أن يقوم بأي شيء على الأرض. وفي الحقيقة أن السياسة التركية استمرت في استخدام هذه الورقة بشكل متواصل منذ 2009 عندما هاجم إردوغان شمعون بيرس في مؤتمر دافوس العولمي وانسحب غاضباً ليستقبل في استانبول استقبال الأبطال الفاتحين.

يجب أن ننوه هنا إلى الربح الصافي الذي تحققه تركيا من تصغير دور إيران المتزعمة لمحور المقاومة عن طريق إظهار أنها لا تفعل شيئاً في ساعات الجد مع الاستفادة التلقائية من واقعة أن ايران بلد شيعي مارق يحاول خداع السنة والتلهي بقضاياهم لمكاسب سياسية تخص الدولة القومية الفارسية ولا تعني الإسلام في شيء. بالطبع لن يضير تركيا شيئاً ان "تنجر" إيران الى حرب واسعة يتم فيها إلحاق خسائر باهظة بها من قبل الجيش الأمريكي الهائل بما يعطي تركيا هيمنة إقليمية مريحة لأن تضرر إيران الجوهري سيقود الى تقص دورها ونفوذها الإقليمي وربما الى انهيار ما يعرف بمحور المقاومة بمكوناته اليمنية والعراقية واللبنانية.

ثانياً: السعودية والإمارات
تشكل هاتان الدولتان قطباً مع اسرائيل في مواجهة القطبين التركي والإيراني، ولذلك لا يوجد أية حاجة لتفسير موقفهما الممالئ لإسرائيل سراً وعلناً. ولا بد أن العدو الأهم بالنسبة لهذه الدول هو إيران ومحورها. ومن المهم أن نسجل هنا أن هذه الدول تتشارك مع اسرائيل فكرة مفادها أن من الضروري ضرب ايران والمقاومة اللبناينة على وجه الخصوص. ولذلك نظن أنها ترغب في رؤية تدخل ايراني يجر إلى تورط يستدعي تدخل الولايات المتحدة لتقوم بتخليص "المنطقة" من الخطر الإيراني الحقيقي أو الموهوم.

ثالثاً: محور المقاومة
في ضوء اللوحة أعلاه، يمكن أن نقرأ موقف محور المقاومة الذي يبدأ بالتهديد بأن العدوان على غزة يجب أن يتوقف فوراً ودون أي تسويف أو إبطاء، إلى حد أن اليوم السابع من العدوان يشهد تصريحاً لوزير الخارجية الإيرانية يقول فيه شيئاً من قبيل إن الوقت قد انتهى وأن اتساع المواجهة آت سريعاً لا محالة.

بعد قليل يتراجع الموقف الإيراني وموقف حزب الله تدريجياً إلى مستوى انتظار الحرب البرية، ثم انتظار جودو. باختصار ودون أي "تسويف" لا طائل تحته، ليس بالإمكان فعلياً خوض الحرب بدون غطاء روسي أو صيني، لأن ذلك يعني إلحاق تدمير واسع خطير بلبنان وربما إيران.
خلاصة:

هكذا يتجلى أن المقاومة في غزة تقاتل فعلياً بشكل منفرد، وحتى الفلسطينيون في الضفة لا يقومون بشيء ذي بال، وليس واضحاً أنه بالإمكان أن يقوموا بشيء مهم حقاً، إذ ليس من السهل تخيل أن تؤثر قوات السلطة الفلسطينية في ميزان الحرب حتى لو افترضنا جدلاً تلقيها الأوامر لفتح جبهة ضد إسرائيل.

وهكذا يتضح أيضاً أن الأمل الوحيد هو شجاعة المقاومة في غزة وذكاءها وقدرتها على الصمود وقتاً طويلاً بما يسمح بتشكل جبهة جماهيرية واسعة معادية للحرب والإبادة لتضغط باتجاه وقف لإطلاق النار. وفي حال تحقق ذلك وهو بداهة انتصار اسطوري، على الرغم من أن الدمار الواسع الذي تم إلحاقه بغزة حتى للحظة، فإن واقعاً إنسانياً خطيراً سيترتب على المقاومة أن تواجهه وأن تعيد البناء في ظل موازين القوى المعروضة أعلاه باختصار والتي لا يمكن وصفها بالمواتية بأي شكل من الأشكال