الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

إدارة التوحش| بقلم: ناجح شاهين

2023-12-08 10:41:49 AM
إدارة التوحش| بقلم: ناجح شاهين

مقدمة: الإبادة أم التطهير؟
 

من المألوف التفكير في أن الدولة التي تمارس الإرهاب تسعى إلى فعل ذلك بعيداً عن العيون، لأن ذلك يدينها أمام الناس والمجتمع الدولي والأمم المتحدة، وحتى في عيون أبناء شعبها. لكن إسرائيل تفعل اليوم عكس ذلك تماماً: تقوم إسرائيل بالبطش بالمدنيين الفلسطينيين على رؤوس الأشهاد، بل إنها تسعى إلى إيصال هذه الصورة إلى أكبر عدد من الفلسطينيين، ولا ضير في أن تصل الرسالة للعرب أيضاً؛ لماذا؟ إسرائيل تريد أن تقوم بالتطهير العرقي ولذلك فإن بث الرعب ونشر الذعر العام يعد سلاحاً مهماً في هذا الصدد، وحتى مقولة أن إسرائيل تمارس الإبادة الجماعية تبدو مفيدة لتحقيق الغاية نفسها، ولا ضير منها ما دامت تُبث في أوساط العرب والفلسطينيين ولا تؤثر على إسرائيل كونياً أو حتى إقليمياً. ولعل تلك الصورة لإسرائيل المجنونة التي تبطش دون حدود أن تساهم في ترميم صورة الردع الإسرائيلي، وترعب العرب الذين شكلوا "أوهاماً" غداة السابع من تشرين فحواها أنهم يمكن أن ينتصروا عليها.
بين الماضي والحاضر:

سنة 1948 نفذت إسرائيل العديد من المجازر وأعمال الاغتصاب والحرق والتخريب بغرض دفع الفلسطينيين إلى مغادرة قراهم ومدنهم وصولاً إلى تطهير أجزاء واسعة من فلسطين. وقد انتشرت أخبار المجازر، وعلى رأسها مذبحة دير ياسين، إلى كل مكان تقريباً على الرغم من غياب الإعلام الجمعي بمعناه المعاصر. وقد وظفت العصابات الصهيونية في ذلك الوقت مكبرات الصوت التي تتنقل عبر سيارات وتخبر أهالي القرى والمدن البعيدة أن قواتها قد قتلت الرجال والأطفال، واغتصبت النساء في دير ياسين ومناطق أخرى، وأن من يريد تجنب ذلك المصير، فإن عليه أن يهرب قبل أن تصله القوات الصهيوينية لا محالة. ها هو يوأف غالانت يهدد سكان لبنان: سوف يكون مصيركم كمصير غزة وخان يونس إذا تجرأتم على شن حرب على الدولة العبرية. إلجموا حزب الله قبل أن يحل بكم جحيم يوم القيامة. إذن يتباهى وزير الحرب عبر وسائل الإعلام الموثقة بأنه قام بأعمال بطش مريعة في غزة، وعلى من يرغب في تجنبها أن يستكين للإرادة الإسرائيلية.

الإعلام العربي بسذاجة، أو دعنا نقول جزء منه، بسذاجة أو بنية طيبة، يردد مقولات الإبادة الجماعية والوحشية وتعرية الناس في الشوراع بغرض فضح إسرائيل. لكن ذلك ما تريده إسرائيل في هذه اللحظة على وجه الدقة: أن يتم فضح مقدار البطش الذي تنفذه ونشره على أوسع نطاق عربي عموماً وفلسطيني على وجه الخصوص. فذلك مدخل مهم لتحقيق التطهير العرقي علماً أن إسرائيل لا تريد في هذه اللحظة -وليس من المعقول أن تريد- أن تقوم بإبادة واسعة للسكان، ولكنها تريد بوضوح تام أن تخلي القطاع من سكانه مقدمة لإخلاء الضفة -الأكثر أهمية – من سكانها، وهكذا يكتمل المشروع الذي بدأه بن غوريون دون أن ينجز كل شيء على كأفضل ما يكون.

قام الاستعمار الأوروبي على امتداد القرون الحديثة بتوظيف التوحش من أجل إنجاز أهدافه السياسية والاقتصادية الجوهرية دون أية مبالاة تجاه المبادئ الليبرالية المطورة في سياق الثورة الرأسمالية ومفكري التنوير والعقلانية الفرنسية والإنجليزية. وقد تمت أعمال الإبادة والتطهير في مواقع كثيرة يقف على رأسها "العالم الجديد" من قبيل الأمريكيتين وأستراليا، ولا نظن أن أحداً قد أبدى ندماً على تلك الممارسات الواسعة والمخططة والواعية. والحقيقة أن الممارسات الاستعمارية المتوحشة لم تتراجع حدتها إلا في سياق الحرب الباردة وفي مواجهة التهديد الشيوعي الذي كان يصارع الرأسمالية في الحقول المختلفة لينزع عنها المشروعية ويروج للثورة الاشتراكية. وبمجرد ان انهار الاتحاد السوفييتي عاد التوحش ليطل برأسه على الفور بدءاً من حصار العراق بعد حرب "تحرير الكويت" مروراً بقصف صربيا واحتلال أفغانستان ووصولاً إلى احتلال العراق والتبجح بالممارسات الرهيبة في الفلوجة وأبوغريب. لم تأت صور العراة الخاضعين لتعذيب لا تطيقه الجبال في أبوغريب أو غوانتانامو عبثاً: لقد كانت جزءاً من استراتيجية بث الذعر على أوسع نطاق مع رسالة فحواها أن من تسول له نفسه أن يعارض مشروع أمركة العالم سيواجه مصيراً كالذي واجهه العراق الذي لم يفعل أصلاً ما يستوجب ذلك كله.

بعد قليل ستتحول الممارسة الأمريكية الواقعية إلى نظرية تتبناها منظمة داعش المعدة في واشنطون. داعش نشرت كتيباً عن إدارة التوحش أوضحت فيه أن البطش المجنون الدموي المرعب هو وسيلة ضرورية لتحقيق النصر وردع الأعداء وبث الخوف في قلوبهم كي يستسلموا ولا يفكروا في المقاومة حتى في أحلامهم. ليس هذا اختراعاً حديثاً بالضرورة، وقد سبق لنبوخذ نصر أن نفذه، وسبق لهولاكو أن طبقه هنا وهناك، ولكن تحوله إلى نظرية سياسية صريحة لم يتم إلا على يد داعش وبإشراف أمريكي. ولا بد من التنويه هنا أن ذلك كله مما يخالف قواعد الحرب التي يعرفها المسلمون، والمستندة أساساً إلى نص كلاسيكي يحدد أخلاقها ويتمثل في وصية الخليفة أبي بكر إلى القادة "الملحميين" الذين خرجوا للجهاد في الشام والعراق بأن لا يقتلوا المدنيين ولا يعتدوا على أماكن العبادة ولا يقطعوا الأشجار..الخ. بداهة لم تنطلق داعش من تراث إسلامي، وإنما من رؤية أمريكية معاصرة. ها هي إسرائيل تطبق مبادئ داعش الأمريكية على أوسع نطاق ممكن.
خلاصة:

ليس من داع للبحث عن جرائم إسرائيل ولا نشرها في مواقع التواصل الاجتماعي التي تصل إلى الفلسطينيين أو العرب. واقع الحال أن أرض قطاع غزة الصغيرة تحفل على امتداد البصر بالشواهد التي لا تحتاج إلى نظارة أو مجهر: هناك "أطنان" من الجرائم الكبرى ضد الإنسانية وجرائم الحرب بأنواعها وألوانها التي تغطي الطيف وتتعداه، وبإمكاننا أن نضعها "في الخرج" كما يقول المثل الفلسطيني. لقد سقط بوضوح لمن له عينان وبصيرة موال حقوق الإنسان الليبرالي الذي حاول الأوروبي أن يخدعنا به ردحاً من الزمن، وغدا جلياً للقاصي والداني أن "التوحش" وليس انتهاك حقوق الإنسان هو "أداة" سياسية "مشروعة" من قبل المركز الأوروبي/الأمركي لتحقيق الأهداف السياسية، وقد بلغ الأمر حداً من التركيز دفع أنتوني غوتيرش النائم أبد الدهر يستيقظ مذعوراً ويمارس حقه في تنفيذ المادة 99 ليطلب من مجلس الأمن أن يتحل مسؤولياته. لكن هيهات هيهات: إن دواء فلسطين الوحيد هو قدرة المقاومة على الصمود وعلى إلحاق الأذى بالاحتلال، وإلا فإن إدارة التوحش ستتواصل حتى تنجز أهدافها وسط تعاون لا تخطئه العين من قبل المحيط الإقليمي بما فيه الدول التي تتحدث اللغة العربية، والتي تظن على ما يبدو أن إخضاع الفلسطينيين أمر مفيد لمصالحها، وربما تظن أيضاَ أن التوحش الإسرائيلي مفيد أيضاً في ضبط إيقاع إيران وحزب الله وآخرين يمكن أن يشكلوا إزعاجاً للنظام الإقليمي السعودي/الإماراتي/الإسرائيلي الجديد. بديهي أن معظم دول المنطقة تود أن تنجوا بجلدها وأن لا يضعها المايسترو في واشنطون على قائمة الدول الواجب "إصلاحها" فتدخل في دوامة سورية أو العراق أو ليبيا.

هكذا يتم توظيف التوحش في فلسطين والإقليم، ولا بد أن من ينشرون "إنجازات" الجيش الإسرائيلي في القتل والتعرية والإذلال والتجويع والتعطيش يساعدونه من حيث يظنون أنهم يحاربونه، وإذا كان لا بد في هذا اللحظة من "فضح" ممارسات إسرائيل المنشورة أصلاً على أسطح عالية مكشوفة لكل من له عينان، فيستحسن أن يتم توجيه ذلك إلى العالم الأجنبي والجمهور الغربي منه على وجه الخصوص.