في الخمسينيات من القرن الماضي كانت البلاد العربية قد تحررت من ربقة الاستعمار للتو، وكان من المفترض أن تكون قد وضعت أقدامها على بداية سكة النهوض والانطلاق نحو المستقبل، فلديها ما يؤهلها لذلك، سيما وأنها تمتلك قدرات وإمكانيات وثروات هائلة .. وفي نفس الفترة كانت اليابان وألمانيا قد خرجتا من الحرب العالمية الثانية مدمرتين بالكامل، وتجران أذيال هزيمة ساحقة، وأوروبا كلها منهكة ومنهارة، وروسيا تداوي جراحها وتحصي قتلاها، وكانت كوريا تحت الاحتلال الأمريكي، والصين على موعد مع مجاعة رهيبة، وسنغافورة لم تكن على الخارطة أصلا، والهند تعاني من الحرب الأهلية والانقسام، والبرازيل غارقة في تخلفها وأزماتها .. اليوم، لو أجرينا مقارنة بسيطة بين البلدان العربية وتلك البلدان لخرجنا بنتائج محبطة ومخيبة وللآمال، بل ومخجلة !! فكيف، ولماذا حدث ذلك ؟!!
في بداية الخمسينات، ظهرت الأحزاب السياسية (الإخوان المسلمين ظهروا قبل ذلك بثلاثة عقود) وفي تلك الحقبة سادت موجة من الشعارات الكبيرة، وبرز عدد من الخطباء المفوهين .. صدقهم الناس في البداية، وآمنوا بهم، وانضموا إليهم بالملايين (على اختلاف توجهاتهم)، ثم أخذت النكسات والإخفاقات تتوالى، وأخذت الجماهير تتخلى تدريجيا عن كل شعار يسقط، لتجرب شعارا جديدا، وهكذا، فبعد أفول الموجة القومية واليسارية، صعدت موجة الإسلام السياسي بخطبائها وشعاراتها، وكان على الناس أن تجرب هذا القادم الجديد ..
في نهاية السبعينات، وبعد نجاح "الخمينية" بسرقة الثورة الإيرانية، بدأت حركات الإسلام السياسي بالصعود، متأثرة بالحرب الأفغانية، وبجملة من العوامل الذاتية والموضوعية التي لا يستع المجال لشرحها، ولكن بالإجمال يمكن القول أن صعودها كان نتاجا حتميا لحالة التراجع الثقافي العام، ونتيجة إخفاق القوى القومية والتقدمية في تحقيق أهدافها، وإلى خلق المناخات المؤاتية لنمو الأصوليات، التي بعد أن كانت تُعَد على أصابع اليد، تكاثرت على نحو مرعب، وها هي اليوم لا حصر لها ولا عد، وبعد أن كانت هامشية ومعزولة ها هي تتغلغل في كل خلايا المجتمع، وتدخل كل بيت، وفي كل وسيلة إعلام، وبعد أن كانت محظورة، استلمت السلطة في أكثر من منطقة، (بالانتخابات وبالقوة)، وبعد أن كانت دعوية سلمية، تكشَّف وجهها عن أيديولوجيا وهابية مستمدة من الفقه الأصولي المتشدد المنغلق، وتمارس أشد درجات العنف والإرهاب .. بمسميات ما أنزل الله بها من سلطان، وكلها تتخذ من الإسلام ستارة تمارس من ورائها جرائمها وتخريبها.
ولكن، يجدر القول أن الحركات الإسلامية ليست وحدها من يتحمل مسؤولية تردي الأوضاع والسقوط نحو الهاوية، كل الأحزاب والقوى تتحمل جزءاً من المسؤولية، وبالطبع قبلهم الأنظمة والحكومات، وحتى الجماهير، إلى جانب تاثير العوامل الخارجية .. وهنا لسنا بصدد إصدار الأحكام، فمن السهل اتهام طرفا بعينه، وتبرأة الأطراف الأخرى .. لكن هذا النهج لن يقود إلا إلى مزيد من الضياع والتراجع.
ومع ذلك، يمكن تلمس قاسم مشترك بين كل الأطراف التي شاركت في صنع هزائمنا وخرابنا .. إنه الشعار .. الشعار الأجوف الذي نردده دون وعي .. الشعار الذي حمله الجميع، وسوّقه على أنه خشبة الخلاص، الذي عطل إمكانية أي فعل حقيقي ..
لكل حزب شعاراته، لكن ما يجمعها هو تصلبها رغم التقلبات المحيطة بها، وخلوها من المضمون، وافتقارها إلى آليات العمل، وانفصامها عن الواقع، تلك الشعارات التي جعلتنا ننتظر الحل من السماء، أو من الخارج، ننتظر الخليفة الذي سيملأ الأرض عدلا، والقائد الذي سيجر الجيوش من خلفه، تلك الشعارات الديماغوجية المضللة، التي رفعت الأحزاب فوق أكتاف الجماهير، ونصبتهم فوق ركام بؤسهم وفقرهم.
كنا، وما زلنا، نرفع الشعارات، والخطباء يملئون الفضاء صراخا وتهديدا .. بينما الآخرون يبنون، ويتقدمون .. ونحن نتراجع ونهوي، وننبش أحقاد التاريخ، ونخوض معركة بدأت في سقيفة بني ساعدة ولم تُحسم بعد .. نفتش عن كل عدو محتمل، بينما عدونا الحقيقي أمامنا مباشرة .. الله يرحم عبد الله القصيمي حين قال: العرب ظاهرة صوتية.