إسرائيل، مثل أي بلد آخر، تتشدد عندما تكون قوية، وتعتدل عندما تكون ضعيفة. وخلافاً لتيار واسع من الفهلويين العرب يشمل أنور السادات وحمد بن خليفة وياسر عرفات والسلطة من بعده...لخ فإن إسرائيل لا تميل إلى السلم عندما "تقتنع" بأن عدوها مؤتمن الجانب وأنه يريد السلام ولا يريد "إلقاءها في البحر" ، وإنما تتجه إلى المزيد من التوسع، وفرض الهيمنة على المنطقة كلها بغرض أن تتحول إلى المهيمن الإقليمي الذي يتوسط دور المهيمن الدولي أي الولايات المتحدة.
جاء السابع من تشرين ليجب ما قبله من تمدد إسرائيلي هائل بدأ يزكيها فعلياً لتسرق مكتسبات تركيا وإيران وتنفرد بحكم المنطقة بالتحالف مع أو الإلحاق الصريح للسعودية والإمارات والبحرين من بين دول أخرى. وهكذا أفاقت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة والعالم الغربي مصعقوين من هول المفاجأة، فكان لا بد من إعادة عجلات التاريخ إلى الوراء مهما كلف الثمن.
في هذا الإطار بدأت إسرائيل عملية ضخمة لسلب المقاومة في غزة ما أحرزته من انتصار واضح. ومن المعلوم بالنسبة لإسرائيل ورعاتها أن البعد الجماهيري يحتاج إلى اهتمام خاص: لا بد من إقناع الجماهير بأن نصراً من أي نوع لم يقع أبداً، وأن المقاومة إنما جلبت الويل والثبور والدمار والخراب وعظائم الأمور على نفسها وعلى شعبها. وذلك مفتاح مهم لمسح صورة النصر التي تحققت.
هكذا شرعت الآلة العسكرية الإسرائيلية مزودة بالتفوق الأمريكي الساحق في مسح غزة بقنابل عملاقة بعضها لم يستخدم من قبل. كان المقصود كما أسلفنا إلحاق ضربات صاعقة مرعبة لقلب المقاومة مع تدمير حاضنتها الجماهيرية وصولاً إلى لعن اليوم الذي ولدت فيه القسام وغيرها من الكتائب. في هذا السياق تم قتل المدنيين قصداً وعلى أوسع نطاق، وقصفت المشافي والكنائس والمساجد والبيوت المدنية ومدارس وكالة الغوث وسيارات الإسعاف وتم تصفية المساجين الفلسطينين من غزة والضفة بالتعذيب أو الاعتداءات من قبل الجنود أو المحققين؛ باختصار سمح لإسرائيل أن تفعل الموبقات كلها من أجل استعادة الردع الذي تقوض في السابع من تشرين. بداهة أن صورة الأمم المتحدة وايديولوجيا حقوق الإنسان الغربية قد تضررتا بشدة، ولكن ذلك كله ليس مهماً إذا كان المردود هو عودة إسرائيل إلى ممارسة هيبتها وسطوتها على الشعوب والأنظمة في منطقة "الشرق الأوسط".
لسوء الحظ الصهيوأمريكي فإن ما حصل كله لم يعط النتيجة المرجوة لأن المقاومة ظلت تتمتع بالقدرة على إطلاق الصواريخ التي تهدد المدن الإسرائيلية المختلفة، كما ظلت على قدرتها على إلحاق الخسائر البشرية والعتادية في قوات الجيش التي دخلت أحياء غزة المختلفة. ومما يزيد الطين بلة أن التقنيات الحديثة تسمح للمقاومة بأن توثق بالصوت والصورة الضربات التي تلحقها بإسرائيل بما يمنع أن تخفي كل شيء أو أن تتظاهر بأنها تربح الحرب على نحو كامل. وقد ترتب على الفشل النسبي للحملة الإسرائيلية تعالي الأصوات داخل الكيان بضرورة وقف الحرب وتبادل الأسرى مع المقاومة بما يعني كارثة سياسية استراتيجية لإسرائيل. لكن صعوبة الميدان تدفع إسرائيل إلى التفكير في هذا الخيار على الرغم من أن الأمريكي الذي يعيد سيناريو تموز 2006 يطالب الدولة العبرية بمواصلة الحرب حتى قهر حماس وإفنائها من الوجود.
يدرك الأمريكي بطبيعة الحال أن إسرائيل لن تكون بخير إذا خرجت المقاومة من المواجهة على قيد الحياة حتى وإن تهشمت ضلوعها وسقط سقف منزلها ومنزل أسرتها على رأسها. المقاومة حية يعني أن إسرائيل لا تستطيع أن تحمي نفسها ولا تستطيع أن تخيف الجيران الذين يهددوها ولا طمأنة الجيران الذين يتمسحون بها لكي تضمن لهم سلامة نفطهم من تهديد اليمن أو سورية أو إيران أو المقاومة اللبنانية...الخ وإذا وصلت إسرائيل إلى هذه النقطة، فإن الولايات المتحدة ستلقي بها في أقرب حاوية مهملات باعتبار أنها ليست في حاجة إلى المزيد من التوابع الذين يحتاجون الحماية في "الشرق الأوسط" فمما لا شك فيه أن دول الجزيرة العربية كلها تحتاج إلى الحماية من اليمن قبل إيران، وكذلك الأردن ومصر، وقد كان يفترض أن تكون إسرائيل هي البعبع الذي يخيف الأعداء والحارس الذي يحتمي به الأتباع.
إذن تكمن أهمية إسرائيل في قوتها. وهو أمر جلي في تاريخ العلاقة الأمريكية الإسرائيلية: إن إسرائيل لم تقترب من "قلب" الولايات المتحدة قليلاً إلا بعد العدوان الثلاثي، لكنها لم تتحول إلى إسرائيل الغالية التي تتمتع بدلال أكبر من أية ولاية أمريكية إلا بعد حرب حزيران 67 التي كشفت للعالم كم هي قوية وساحرة هذه الإسرائيل الصغيرة التي تستطيع في أيام قليلة، ربما ثلاثة أيام، أن تطيح بأسطورة ناصر في مصر والبعث في سورية وتحتل ما تبقى من فلسطين والجولان وسيناء. وقد واصلت إسرائيل أداءها "الجميل" على الرغم من تعثر بسيط سنة 73 لتعود سنة 82 وتطرد منظمة التحرير من لبنان وتذل الجيش السوري وصولاً إلى استسلام منظمة التحرير لإرادتها، وتوقيعها اتفاقية أوسلو التي تعطي إسرائيل كل شيء ولا تعطي الفلسطينيين شيئاً.
لكن جبهة "الشمال" تقلب السحر على الساحر، بدءاً بطرد إسرائيل من لبنان سنة 2000 ومواجهة تموز المقلقة جداً سنة 2006 وانتهاء بما يفعله التلاميذ في غزة من أساطير في مواجهة الماكينة العسكرية الصهيوأمريكية. وعلى الرغم من الدور الأمريكي النشط لانتشال إسرائيل من إخفاقاتها إلا أن ذلك لا ينجح على نحو كاف. ولا بد أن الولايات المتحدة ستضطر إلى الدخول في رحلة التخلي عن هذا الحلم الإسرائيلي الجميل بمجرد أن تنتهي الحرب في غزة بدون القضاء على المقاومة.
أما في داخل إسرائيل فسوف تسقط الأحزاب الفاشية التي تنادي بالتطهير وطرد العرب، وربما ذبحهم عن بكرة أبيهم، ليرتفع صوت العقلاء الذين يطالبون بحل الدولتين والقبول ببدائل ما لعودة اللاجئين. وسوف يعود حزب العمل وحزب ميرتس إلى الحياة بعد أن ماتا تقريباً بفعل انزياح الجمهور والنخب باتجاه اليمين الفاشي على نحو يذكر بألمانيا ما بعد 1933. إسرائيل ستعود إلى رشدها والوطن العربي سيعود إلى رشده والجماهير من المحيط إلى الخليج ستصحو على صرخات الفجر الذي يلي وقف النار لتجد نفسها وقد انتصرت على نحو مذهل على البعبع الصهيوأمريكي. وهكذا سيصبح صوت "العقلاء/الجبناء" أو الخونة العملاء خافتاً منبوذاً لا يقبله أحد.
سوف تعود هذه الأمة إلى الحياة ومن لا يصدق ذلك فعليه أن يتابع كيف يضطر فرقاء من قبيل السعودية والأردن ومصر والمغرب بل الإمارات والسلطة إلى مجاملة المقاومة لأنهم يعرفون أن نبض الناس في كل مكان يهتف اليوم باسمها، وأن شبح المقاومة يخيم في كل مكان مثلما كان شبح الاستسلام يخيم في معظم الأمكنة.