على بعد نحو 16 كيلومترا شمال تل أبيب، يقع مركزهرتسيليا للتخصصات المتعددة (IDC)، التابع لجامعة (رايخمان)، وهذا المركز متخصص بالتدريس والتدريب في مجالات: الإعلام الدولي، وإنتاج المحتوى، والإعلام الإلكتروني، والقانون والحكم، والعلوم السياسية، وعلم الاجتماع، والنشر في الفضاء الرقمي بعدة لغات وفي مقدمتها اللغة العربية. وبعد الإنتهاء من الدراسة، يتم تجنيد الخريجين في الجيش الإلكتروني الإسرائيلي، لخوض المعارك الرقمية لإختراق الوعي الفلسطيني والعربي والدولي، عبر منصات التواصل الإجتماعي وأدوات رقمية أخرى، للترويج للرواية الإسرائيلية، ولإخضاع الإنسان العربي وللتأثيرعلى الرأي العام الدولي لدعم إسرائيل.
نفقات التضليل
وتحت شعار أن الحرب على غزة هي " حرب الاستقلال الثانية "، تشن إسرائيل معارك رقمية، لنشر سرديتها لهجوم المقاومة الفلسطينية، على مستوطنات غلاف قطاع غزة في 7 أكتوبر، لتوفير الغطاء والشرعية الدولية لهجماتها العسكرية على القطاع، بمحتوى يهدف لإختراق وعي الناس في العالم، ولا سيما في الدول الغربية، إضافة إلى ممارسة الضغط على أطراف عالمية مختلفه، لضمان انحيازها لجانبها وتبني روايتها بشأن العمليات العسكرية في القطاع وما يترتب عليها.
وبموازاة العمليات العسكرية على الارض أطلقت إسرائيل منذ اليوم التالي لهجوم 7 أكتوبر حملات دعائية للترويج لروايتها لما جرى في الهجوم، تتضمن معلومات مضلله لإستدرار العطف، وصلت لدول عديدة حول العالم، ونجحت تلك الحملات من التأثير في الرأي العام العالمي، بعد أن تبنتها وسائل إعلام غربية تقليدية كبرى. الا أنه بدأ التأييد لإسرائيل بالإنحسار بعد البدء بقصفها الجوي العشوائي على قطاع غزة، والدمار الهائل والخسائر البشرية في اوساط المدنيين الفلسطينيين بفعل هذا القصف، الذي كان يبث على الهواء مباشرة، وبواسطة آلاف مقاطع الفيديو في وسائل التواصل الإجتماعي.
ووفقا لصحيفة "ليبراسيون" الفرنسية، فإن إسرائيل أنفقت 4.6 مليون دولار في فرنسا، للترويج لروايتها للحرب، من خلال إنتاج فيديوهات حققت نحو مليار مشاهدة، بين أكثر من 500 مليون مستخدم فرنسي، كما أنفقت 2.5 مليون دولار لإستهداف مستخدمين ألمان، و 1.2 مليون دولار لإستهداف الجمهور البريطاني. وترافق ذلك مع حذف (تيك توك)، أكثر من 500 ألف مقطع فيديو يساند السردية الفلسطينية، فضلاً عن عن حذف شركة (ميتا)، لأكثر من 795 ألف منشور مؤيد للفلسطينيين باعتباره "مزعجاً".
صحيفة "غلوبس" الإسرائيلية قالت، إنه خلال الأسبوع الأول من الحرب على غزة، نشر القسم الرقمي في وزارة الخارجية الإسرائيلية الذي يسمى بـ"الدبلوماسية العامة"، أكثر من ألف منشور وتغريدة على وسائل التواصل، باللغات الإنجليزية والإسبانية والعربية والفارسية والروسية، حصلت على أكثر من 320 مليون مشاهدة، كما أصدر أكثر من 80 بيانا رسميا لإدانة حماس، ودعم إسرائيل من مختلف البلدان، بالإضافة الى أن طواقم وزارة الخارجية الدبلوماسية، أجرت جلسات إحاطة لنحو 250 مراسلا أجنبيا، وأكثر من 640 مقابلة مع وسائل الإعلام الدولية بمختلف اللغات، لتشويه الرواية الفلسطينية وضحضها .
الدبلوماسية العامة
وكانت دولة الإحتلال قد أنشأت في وقت سابق لحربها على قطاع غزة في 2023، صفحات رسمية وأخرى غيررسمية، بأكثر من 20 لغة في فضاء وسائل التواصل الإجتماعي، منها ما هو موجه للشعوب العربية، لإحداث تغيير في توجهاتها بشأن إسرائيل، وترسيخ ما تدعيه من أنها جزء من فسيفساء الشرق الأوسط ، ولاحقا لتعميم سرديتها للحرب على غزة، بما يتضمن حقها في الدفاع عن النفس، ووصم المقاومة الفلسطينية بالداعشية، وإضفاء الشرعية على قصفها العشوائي للقطاع، الذي أدى لسقوط اكثر من 18 الف مدني فلسطيني (حتى تاريخ كتابة هذه السطور)، وإصابة عشرات الآلاف بجراح، وتدمير البنى التحتية المدنية، ناهيك عن نزوح مئات الآلاف من مناطق سكنهم ليعيشوا في العراء، في ظروف لاإنسانية.
وتكشف حرب إسرائيل 2023، والحروب التي سبقتها على قطاع غزة، عن توظيفها الفضاء الرقمي لأغراض دعائية، باستخدام شبكات التواصل الإجتماعي العابرة للحدود، في حربها ضد المقاومة الفلسطينية. هذه الحرب لإختراق الوعي تخوضها ما يعرف إسرائيليا بـ "الدبلوماسية العامة"، وهي آلية تتم من خلالها عملية نقل الرسائل من إسرائيل إلى العالم، لإقناعه بالسردية الإسرائيلية، وتحديدا في القضايا السياسية. ولا يقتصر إستخدام هذه الآلية على المنظومة الأمنية فقط ، وإنما تشارك بها وسائل الإعلام الإسرائيلية العامة والخاصة المختلفة، لتبرير السياسة الإسرائيلية وإضفاء الشرعية عليها، والتصدي للسردية الفلسطينية والعربية، التي تكشف حقيقة السياسات الإسرائيلية أمام الرأي العام الدولي.
صفحات المخابرات
وقبل هجوم المقاومة على مستوطنات غلاف غزة في 7 أكتوبر، كانت ( ولا تزال) أجهزة المخابرات الإسرائيلية، تتبع إستراتيجية التواصل المباشر مع الجمهور الفلسطيني، من خلال دردشات في صفحات تديرها على مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف جمع معلومات استخبارية، والتعرف إلى توجهات الفلسطينيين، وإيهامهم بأنها القادره على حل مشكلاتهم لابتزازهم، ومحاولة إسقاط من تتمكن من اسقاطه أمنيا في شباكها. وفي عام 2016 أنشأ جهاز المخابرات الداخلية الإسرائيليية (الشاباك) صفحة فيس بوك باللغة العربية حملت إسم "بدنا نعيش"، لإختراق المجتمع الفلسطيني، يشرف عليها ضباط مخابرات وأخصائيون نفسيون، وخبراء تسويق، ومختصون في حقل العلوم الاجتماعي، والدراسات الشرق أوسطية والإسلامية..
وأشارت صحيفة "ميكور ريشون" الإسرائيلية، في تحقيق صحفي، الى أن المؤسسات السياسية والأمنية في إسرائيل، تعتمد على الدعاية باللغة العربية، للتأثير الذي تتمع به مواقع التواصل الاجتماعي في العالم العربي، ما دفع بالقائمين على "الدلوماسية العامة" الإسرائيلية، لتطوير قدراتها لمواجهة لما تسميه بـ"التحريض" ضد إسرائيل في هذه المنصات والوصول إلى أكبر قطاعات من العرب، بصرف النّظرعن مستواهم الفكري والثقافي أو توجهاتهم.
جندلمان وأدرعي
ونقلت الصحيفة عن أوفير جندلمان الناطق بأسم رئيس الحكومة الإسرائيلية، الذي يديرعددا من الصفحات باللغة العربية على مواقع التواصل الاجتماعي قوله: " يوجد 158 مليون حساب باللغة العربية على فيسبوك، وفي كل عام يتضاعف العدد، ما يعزز مكانة هذه الساحة كهدف دعائي بالنسبة لنا، كما نحرص على عرض أدلة تؤشرعلى أن حركة حماس لا تختلف عن تنظيم داعش، وهذا يخدم الدعاية الإسرائيلية في الغرب والعالم العربي على حد سواء" .. وبحسب دراسة أجرتها صحيفة هآرتس فإن خطاب صفحات وزارة الخارجية الإسرائيلية، والمؤسسات الحكومية الأخرى باللغة العربية على فيسبوك، استعلائية تبرز"دونية" العالم العربي، مقابل تفوق إسرائيل.
الناطق بإسم جيش الإحتلال أفيخاي أدرعي، الذي يستعرض لغته العربية في مقاطع فيديو، يبثها في شبكات التواصل الإجتماعي مرتديا الزي العسكري، ويردد أمثلة واقتباسات من التراث العربي والدين الإسلامي بطريقة ببغائية، قال في مقابلة مع القناة العبرية الثانيه: "إن أحد الأهداف المهمة لظهوري على منصات التواصل الإجتماعي باللغة العربية، هو لإضفاء طابع إنساني على ضباط وجنود الجيش الإسرائيلي، ولتحقيق هذا الهدف، اتحدث العربية بطلاقة لتغيير الصور النمطيه عند العرب عن الجيش الإسرائيلي، ويتابعني على صفحتي على الفيسبوك نحو 1.2 مليون شخص على امتداد العالم العربي.. وإن إسرائيل موجوده اليوم بقوة في حياة العرب دون وسطاء، بفضل التواصل عبر شبكات التواصل الإجتماعي، ما يمكننا من طرح أسئلة مثل، كيف يضر هجوم حماس في 7 أكتوبربمصالح الفلسطينيين ويلحق الأذى بهم ولا سيما في قطاع غزة؟".
وبإعتراف أدرعي وغيره من خبراء الدعاية الإسرائيليين فإن الخطاب الدعائي الموجه للعرب، يختلف عن الخطاب الموجه للغرب، حيث تنقل إسرائيل للجمهور الغربي رسائل أكثر نعومة، وتركزعلى أن إسرائيل معرضة لخطر وجودي، ما يقتضي دفاعها عن نفسها، في حين أن الخطاب الدعائي الموجه للعالم العربي، يتحدث عن التهديد لإسرائيل وسبل الرد عليه بإظهار قوتها..
محاربة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لأي سردية مخالفة لسرديتها، لا تقتصر على السرديات الفلسطينية والعربية، أو جهات دولية فقط، وإنما تشمل أيضا، كل من يغرد خارج السرب من الصحفيين الإسرائيليين. وبحسب صحيفة هآرتس، فإن مدير قناة (أبو علي إكسبرس) الإخبارية على تطبيق (تيليغرام)، المتخصصة بقضايا تتعلق بحركة حماس وقطاع غزة عموما، يعمل مستشارا في "حرب الوعي" في وزارة الدفاع. وتهاجم هذه القناة الإسرائيليين الذين ينتقدون الجيش الإسرائيلي أو الحكومة، بشأن حماس وقضايا فلسطينية أخرى، وتعمل على تقويض مصداقيتهم.