ما معنى أن نعد حتى المئة؟ مئة يوم من الحرب: ابنة الموت، والزمن الذي لا يقاس، واللسان الملتوي. كيف يعد الشهيد يومه المئة كجثمان دون قبر؟ وكيف يعد المبتور الطرف يومه المئة كمصاب بخلل الوصول؟ وكيف لليتيم أن يعد يومه المئة وهو لم يدرك بعد معنى العد؟ ما معنى العد عندما نفقد مقدرة الوصول إلى النهاية، نهاية ما لا يعد: الألم؟
عندما كنا صغارا كنا نستطيع أن نعد حتى المئة بفرح، ونختبئ لنجده. اليوم كبرنا، وكبرنا جدا، لكننا لم نعد نعرف كيف نعد، ولا متى يبدأ العد ومتى ينتهي؟ هل بدأ قبل مئة يوم، أم قبل 76 عاما، أم قبل قرن؟ فلم يعد بمقدورنا الاختباء في أي مكان كي نعيش ترف العد. وحدهم العقلانيون من سيكون بمقدورهم العد على مقياس آلتهم الميكانيكية التي صنعوها لقياس الأحلام والرغبات والوقت وتقنينها. وعندما لا يكونون هم من يُقاسون الألم سيكون سهلا جدا بالنسبة لهم العد. وسيكون المتألم أمامهم مستباحا للاختبار ولقياس مقدرته على الاحتمال، وسيكون مستباحا للفرجة على شاشات فضية ملونة بدمه دون فرصة للعد تمنحه حق الاختباء ممن يعدون أيامه الأخيرة، ولا يدركون أو يفهمون رغبته في عدم العد أو توقف العد. والرصاصة أو القذيفة المتطورة وحدها التي تعرف العد، فتبحث عن الأجساد التي تعدها بالأيام، تختار كيف تطيلها أو تقصرها.
العد عقل مجرد، والألم روح وعقل منصهرتان. العد ثنائية، والألم يمسح قطبيتها المنقسمة على الروح والجسد. سيكون من يعد آلة عقيمة مصابة بعطب في الدلالة والقيمة والمعنى. وسيكون المتألم وحده القادر على إنتاجها ضد خشونة العالم الحسابي فيمده بنهايته بل ويكون نهايته عندما يُذكر من يحتفي بإنسانيته بما هو إنساني فيه فيعبر إليه. وسيكون الألم بهذه الطريقة محققا للهوية الأنسنية بنفس المقدار الذي يهددها. فعندما لا نعد الألم سنكون قادرين على الشعور به، وسيكون كل ألم مهما. ولن يكون هنالك ألمٌ أهم من ألم، أو ألم يستحق أن ينتهي وألم آخر يجب أن يستمر برسم العد حتى يذوب المتألم في ألمه يتحلل فيه فيزول.
وستكون مثلبة من يدعي إنسانية متقدمة وعالية أن ينسب لنفسه علاج الألم بينما يعمل على تسكينه، أحيانا بالكلمات أو بالخداع أو الكذب وأحيانا كثيرة بالتسبب بمزيد من الألم الذي يكون أشد وأقسى إيلاما، كي يتأمّل المتألم في درجة ألم أقل راضيا بديمومة الألم، ولكن بوتيرة أخف ودون جدوى لألمه، فيستمر الألم دون معنى، أو بمعنى واحد، وهو التقدم نحو الموت الذي سيكون فقط ووحده الحدث الذي يخترق الألم، فيصبح الشر خيرا. تلك معادلة من لا يفهم الألم، من لا يشعر به، من يعده.
فمن يعد أيام الألم ترهقه التفاصيل، فيتجه إلى العموميات، إلى التجريد، حتى لا يجوزنّ التعامل مع الألم كشعور وإدراك، بل كصفة، وصفة دونية، المتألم هو الأدنى على سلم البشرية، أو لربما ليس على درجاتها أساساً. هكذا تتحقق استمرارية الألم بإخراج المتألم من صفته الإنسانية، فيكون هجينا في أحسن تقدير، أي حيوانا بشريا، يجري تأديبه وتدريبه وتربيته عبر مزيد من الألم كي يكون جديرا بالرقي إلى أن يكون إنسانا مع احتمالية كبيرة ألا يكون. فيتواصل التدريب على استمرار الشعور بالألم من خلال المزيد من العد، والعد الطويل.
لربما قد ننتقل إلى سردية أكثر أهمية وأكثر عدلاً إذا عزلنا عملية العد عن الألم. فما من رياضيات محددة للألم في عالم قادر على أن يتحكم بمقياس الألم ولا يدرك كم أنه ألف مما يَعدّون.