هي الأحداث تتكرر، والتاريخ يعيدُ نفسه، والمُدن تُباد، والمراثي تعيدُ اللحن الحزين، والبيوت تموت إذا غاب سكّانها، والناس يموتون أيضًا إذا غابت بيوتهم، وفي غزة التي لا تشبه مدينة غابريئيل غارسيا ماركيز، يحدث كلُّ شيء، والفنتازيا تصبح حقيقة، والحقيقة أقرب للخيال، وموسم الهجرة للشمال، أو للجنوب، خاصة بعد أن فعل الجنوبيون ما فعلوا وقالوا كلمتهم، فإنَّ العزلة تطبقُ فكّيها على أُناسٍ لم يحلموا بأكثر من حياة، وتدخل المئوية على الأطفال والشيوخ والنساء بشموعٍ لم يروا مثيلًا لها إلا في الأحلام.
مئة يوم من العزلة، ولا أحد يزور مدينة الأشباح سوى النارِ التي تلتهمُ الأخضرَ قبل اليابس، فلا تُبقي ولا تَذَر، ويسقطُ الطفلُ والشجرُ والحجرُ، ولا صوتَ يُسمعُ للأقربين لسانًا ودينًا، بل إنَّ أصواتهم ربما بُحّت وهي تُعيد الجملة التي سمعناها من أول يوم من العزلة: لن نقبل بالتهجير القسري، والأعداد وصلت كذا وكذا، وهذه جرائم غير مقبولة. ولا أدري إن كان وصفها بغير مقبولة يعني أنَّ هناك جرائم يُمكن أن تكون مقبولة!
"لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤلدُه" ولسانُ فتيان غزةَ يقول:" وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً" وهم يعلمون تمامًا أنَّهم " أُفْرِدوا إفرادَ البعيرِ المُعَبَّدِ" ولا مُجيرَ لهم سوى الله، بعد أن رأوا ما حلَّ بمجيرِ أمِّ عامر.
مئة يومٍ من العزلة، والطفلُ يحلمُ بلا شيء، والأشلاء تتناثر، والبيوت تسقط دون نزاع، والأرضُ تُحرَق، والسماءُ تمطرُ لهبًا وشُهُبًا، والقلوب لم تعد قادرةً على الاحتمال، والحياة التي سقط شرطُها بعدم استطاعة الوصول إليها ما زالت تنتظر نجاحَ المحاولين، ولكنَّ الموتَ المؤجّل لا يغفل عن طفلٍ نسيَ أن يموت، فالتقمَهُ ولو كان من المسبَّحين.
ما لا نعرفه، أو ربّما ما لا نريدُ أن نعرفه، أننا كلنا عاجزون، وكلّنا مقيدون، وكلّنا فقدنا شرط الإنسانيّة أمام القلمِ الإجراميِّ الذي شطب كثيرًا من الكلمات، وأعدم عشراتِ الآلافِ من تواريخ الميلادِ التي كانت هدايا احتفالات أصحابها بها شظايا من نارٍ لا نور فيها، ولم يضنَّ مُهدوها بتوقيعٍ سحريٍّ تكتبه أيادٍ آثمة، ليصل الموتُ والحياةُ في لحظةٍ واحدة.
مئة يوم على سكان غزة، وكأنها مئة عام بالتمام والكمال، وإنَّني أحسبُ أنَّ يومًا من أيامِ غزّة كألفِ عامٍ مما تعدّون، فمن يده بالنار ليس كمن يده في الماء، و" اللي تحت العصي مش مثل اللي بِعِدّ فيها" وهذه هي الحال تمامًا. وبعد مئة يومٍ من العزلة القاهرة، بل عزلة التمويت بالتجويع والترهيب والتدمير والتهجير، أصبحت الحياة أشبه بالمستحيلة، في ظلِّ ظروفٍ إنسانيةٍ لا تمتُّ للإنسانية بِصِلَة، فالناس يتقاسمون الخيمةَ التي لا تسترُ ولا تقي بردًا ولا حرًّا، فالأطفالُ مقرورون، والنساءُ مبقورات البطون يلدنَ على قارعةِ الرملِ، ثم يغادرنَ الحياةَ بهدوء، ليلتحقَ بهنَّ أطفالهنَّ دون شهادة ميلاد، وفي اليوم الأول من المئوية الدموية، يقول فيليب لازاريني، المفوّض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين ( أونروا): إنَّ سكان غزة عاشوا مئة يومٍ كأنّها مئة عام، وأنَّ غزة شهدت أكبر حركة هجرة جماعية قسرية منذ عام ١٩٤٨، وأنَّ عشرات الآلاف من الأطفال الجرحى سيحملون معهم أجسادهم المشوّهة التي لن تتمكن من حملِ أرواحهم. وهذا يعني أنَّ جيلًا كاملًا سيعيش حياةً ناقصة، إما بفقده مصدر الرعاية، وفقدان الحاضنة الأسرية، أو بفقدان أطرافٍ وأعضاء كانت ستساعده ذات يومٍ على مخاتلة الحياة.
مئة عام من كلِّ هذه الوحشية التي اختزلتها آلةُ الموتِ، وصمَّمها هُواةُ الدمار على إيقاعِ مئةِ يومٍ من العزلة، وكبيرُ العالم المتحضِّر يقول: التطبيع بين الدول العربية والكيان مستمر، ويجب أن تستمرَّ المذبحة، فهناك حاجةٌ مُلِحَّةٌ لذلك.