كشفت وحشية حرب الإبادة الإسرائيلية على شعبنا في قطاع غزة، والإرهاب الاستيطاني الذي يمارسه جيش نتنياهو ومستوطنوه في الضفة بما فيها القدس المحتلة، مدى مخاطر التداعيات الإقليمية والدولية، بما في ذلك إمكانية اتساع رقعة الحرب التي يخطط لها نتنياهو وزمرته الحاكمة.
وقد أكدت هذه الحرب استحالة معالجة تداعياتها السياسية والأمنية والإنسانية، أو منع نشوبها مرة أخرى دون معالجة جذرية لجوهر الصراع باعتباره قضية احتلال غير مشروع وفقاً للقانون الدولي، وإمعان إسرائيلي في التنكر للحقوق الوطنية الفلسطينية وفي مقدمتها حقه العودة وتقرير المصير وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967.
يتنامى يوميا الاستخلاص الذي قدمه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتريتش بأن انفجار السابع من أكتوبر/ تشرين الأول لم يأتِ من فراغ، بقدر ما كان نتيجة لسياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ومحاولاتها المستمرة للقفز عن تلك الحقوق المشروعة التي يناضل شعب فلسطين لاستردادها منذ ما يزيد عن خمسة وسبعين عاما.
لقد أظهرت بشاعة الجرائم التي ارتكبها وما زال يرتكبها جيش الاحتلال طبيعة المشروع الاستعماري الصهيوني، وإصرار حكام تل أبيب على إخضاع الشعب الفلسطيني من خلال الإبادة أو التهجير، الأمر الذي ساهم بصورة حاسمة في استنهاض الضمير الإنساني لمعظم شعوب العالم، بما في ذلك داخل الدول التي طالما دعمت العدوانية الإسرائيلية، وأغمضت أعينها عن المعاناة الفلسطينية الممتدة منذ عشرات السنين تعرض فيها شعبنا لأبشع الحروب والانتهاكات التي باتت تمس قدرته على البقاء.
في وقت ينزلق فيه المجتمع الإسرائيلي بمعظم مكوناته السياسية نحو اليمين المتطرف والإمعان في رفض الحقوق الفلسطينية، بات من الواضح لأجزاء واسعة من هذا المجتمع أن حكومة الحرب التي يقودها نتنياهو تمضي في هذه الحرب بلا أهداف واقعية محددة، بل أن نتنياهو لا يريد لها نهاية، بقدر ما يسعى لتوسيع رقعتها، وذلك فقط من أجل حماية مكانته وائتلافه اليمني الاستيطاني، كما أنه بهذه السياسة التي لا تأخذ بالاعتبار مصالح حلفاء إسرائيل، بما في ذلك الولايات المتحدة ذاتها، والتي ليس فقط تتعرض مصالحها في المنطقة ولدى شعوبها لخطر جدي، بل وباتت تعرض الإدارة الديمقراطية لخسارة الانتخابات الأميركية القادمة، الأمر الذي ربما يراهن عليه نتنياهو بعودة حليفه الاستراتيجي ترامب ومشروعه التصفوي الذي أعده نتنياهو نفسه.
التوتر في العلاقة بين إدارتي نتنياهو وبايدن بات علنياً، ولكنه ولشديد الأسف و رغم إدراك واشنطن لاستحالة تحقيق أهداف الحرب، إلا أنها لم تصل بعد لمرحلة رفع البطاقة الحمراء لنتنياهو، وتسعى لاسترضائه الأمر الذي يكشف أن الدولة العميقة في الإدارة الأميركية لم تقطع بصورة كاملة مع استراتيجيتها السابقة في إدارة الصراع وتخفيف تداعياته، وليس إيجاد حل جذري له بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وإلزام إسرائيل بالانصياع الكامل لقواعد القانون الدولي، ذلك رغم التحولات المهمة للرأي العام الدولي، بما فيها داخل الولايات المتحدة و الدول الأوروبية الحليفة لها.
السبب الأهم لفشل جهود التسوية على مدار العقود الماضية يعود بالأساس إلى ازدواجية معايير واشنطن في نظرتها للصراع، وسعيها الدائم لاسترضاء إسرائيل لدرجة حاولت فيها جعل مرجعية تلك التسوية هو ما تقبله أو ترفضه إسرائيل، والتي بدورها لا تريد أية تسوية، بما فيها تسوية أوسلو، التي أعطت إسرائيل إمكانية الهيمنة على الكيانية الفلسطينية، وتحويلها إلى مجرد حالة ملتبسة في خدمة الاستراتيجية الأمنية لدولة الاحتلال العنصري.
لعبة القط والفأر التي يمارسها بايدن ونتنياهو في محاولة كليهما، ورغم التباين بينهما، قضم الحقوق الفلسطينية، فهي ما زالت تنطلق في جوهرها من عدم الإقرار الكامل بحقوق الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها الحق الطبيعي في تقرير مصيره، الأمر الذي يظهر ولشديد الأسف أن واشنطن ما زالت ترى أن إمكانية التوصل لحل الصراع، يتأتى من بوابة الرؤية الإسرائيلية لهذا الحل، فتصريحات بايدن الهلامية عن ما يسمى بحل الدولتين بمعزل عن الإقرار بحق تقرير المصير وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، و كذلك حديثه عن أنماط يمكن أن تكون عليها «الدولة الفلسطينية» ليست سوى مجرد استجابة واضحة لمفهوم نتنياهو عن مجرد كلام بلا مضمون عن دولة، و الذي سبق وطرحه في خطاب بار إيلان الشهير، والذي انتهى به ليس فقط إلى تقويض امكانية تسوية تفضي إلى «دولة ما»، بل وسار حثيثاً لضم الضفة الغربية وعزل غزة، وها هو اليوم يواصل حربه لتهجير أهلها.
إن سياسة واشنطن التي طالما أرادت استبدال مرجعيات التسوية الممكنة بما تقبله أو ترفضه حكومات الاحتلال المتعاقبة هي، ومعها الانحياز الدولي، خاصة الأوروبي، المسؤولة عن سياسة نتنياهو وانزلاق المجتمع الإسرائيلي معها نحو اليمين المتطرف و التلاعب بمصالح واشنطن ذاتها.
إن أي جهد لإنعاش إمكانية التوصل لتسوية دائمة وعادلة يقتضى أولا وقبل أي شيء آخر وقف المجزرة وحرب الإبادة والتهجير المستمرة في قطاع غزة، ومعها وقف التوسع الاستيطاني والاجتياحات اليومية في الضفة، فبدون ذلك يكون الحديث عن ما يسمى بحل الدولتين مجرد علاقات عامة تزيد من تطرف المجتمع الإسرائيلي وفتح شهيته الاستيطانية الاستعمارية، وإمعانه في التنكر للحقوق الوطنية لشعبنا، والتي بدون الاعتراف بها لا يمكن التوصل لأي تسوية، بل وستجعل من دائرة العنف مفتوحة دوما على مصراعيها، فمصداقية التسوية السياسية تبدأ بالزام إسرائيل بالوقف التام لمخططات الضم والاستيطان، وتمكين الشعب الفلسطيني من استعادة وحدة مؤسساته الوطنية الجامعة بمشاركة كل قواه السياسية والاجتماعية بما في ذلك حركتي حماس والجهاد، تمهيدا لانتخاب ممثليه على جميع المستويات في سياق تمكينه من ممارسه حقه الطبيعي في تقرير مصيره.
الملفت والغريب هو أنه بالرغم من كل ما يجري من محاولات قضم الحقوق وتدمير حياة البشر واحتمالات تهجيرهم، أن القيادة الفلسطينية ما زالت غارقة في وهم الانتظار، ومحجمة عن أي تحرك نحو وحدة الموقف والخطاب والمؤسسة، وبما يساهم ولو بالقدر اليسير في وقف المجزرة الإنسانية والسياسية التي يتعرض لها شعبنا.