هذا السؤال يلخص ويكشف أهداف الحرب المباشرة وغير المباشرة، وما رافقها من فظائع وحشية، وجرائم تصل حد الابادة الجماعية، ويبدو أن قدرة جيش الاحتلال على تحقيق مزيد من الاهداف العسكرية باتت أمام حائط مسدود. فاعتقاد قادة حكومة الاحتلال أن مقاتلي المقاومة سيخرجون رافعين أيديهم ومستسلمين لم يتحقق، وكما أكد الحليف الأكبر لاسرائيل وزير خارجية واشنطن في جولته الأخيرة بأنه لن يحدث. وبهذا المعنى، فإن الحرب ببعديها العسكري والسياسي قد وضعت أوزارها، ولم يتبق منها سوى عار الجريمة المفتوحة ضد الانسانية، ويبقى الهدف الحقيقي للحرب متمثلاً بجريمة التهجير الجماعي التي تمارسها حكومة الاحتلال منذ اليوم الأول للحرب وحتى اليوم وعلى نطاق واسع ما زال، وربما سيظل، قائماً.
من الواضح أن حكومة الائتلاف اليميني الأكثر تطرفاً بزعامة نتانياهو تسعى لتحويل جرائمها في سياق الحرب الانتقامية غير المسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، إلى مكاسب سياسية في مسار محاولاتها لتصفية القضية الفلسطينية، وعلينا أن ندرك أنه على طبيعة النتائج السياسية لهذه الحرب سيتوقف ما اذا كان المشروع الصهيوني سيواصل التقدم لتصفية القضية الفلسطينية، أم سيدخل في مرحلة نكوص طويلة الأمد نحو دحر الاحتلال و ربما بداية تفكك المشروع العنصري الكولونيالي.
استراتيجية حكومات الاحتلال المتعاقبة على مدار سنوات تمثلت بتعميق الانقسام وترسيخ العطب الذي ولده في الكيانية الوطنية ومؤسساتها الجامعة، والاستثمار الاسرائيلي في هذه الاستراتيجية هو الذي شجعها على المضي بمخطط الضم والتهويد، وما يستدعيه ذلك من محاولات عزل غزة، وتقويض السلطة من خلال تفريغها من مضمونها الوطني. وقد جاء انفجار السابع من أكتوبر ليطيح بهذه الاستراتيجية، ويعيد غزة كما كانت دوماً إلى قلب الوطنية الفلسطينية، و رافعة للمشروع الوطني التحرري. وبمجرد مراجعة عاجلة للحالة الفلسطينية حتى السادس من أكتوبر، يمكن لنا رؤية المدى الذي كان قد وصل إليه تهميش القضية الفلسطينية على الصعيدين الاقليمي والدولي، الأمر الذي شجع حكومة الضم والاستيطان على المضي قدماً بمخططاتها لتصفية الحقوق الوطنية لشعبنا.
لقد أثخنت الحرب جراحاً كارثية عميقة في بنية المجتمع الغزي، على كافة الاصعدة البشرية والانسانية والاجتماعية، كما أدت وما زالت تؤدي إلى تدمير واجتثاث كل مصادر الحياة فيه. وعلينا أن ندرك أن قدرة الناس على تحمل هذه الكارثة وامتصاص آثارها يستدعى امساك الخيط الرفيع، ولكنه الأكثر وضوحاً في هذه الحرب الانتقامية، وأهدافها الاستراتيجية المتمثلة بالتصفية عبر التهجير . فما تخطط له اسرائيل حتى في حال التوصل لاتفاق حول ما يسمى بالهدن الممتدة أو وقف اطلاق النار يرتكز أساساً إلى اغراق القطاع في دماء اطفاله ونسائه و رجاله و في عتمة دمار بيوته،و مصادرة قدرته على استعادة مصادر الحياة فيه. وبالتأكيد فإنه لتحقيق هذه الاهداف، سيعمل أساساً على تعطيل ما يعرف بعملية اعادة الاعمار واعاقة دخول مواد الاعمار بالسيطرة على معبر رفح أو التحكم في طبيعة حركة البضائع من خلاله، في محاولة لمنع المجتمع الغزي من القدرة على استرداد مصادر الحياة فيه، والتي تعرضت لجريمة ابادة شاملة على كافة الأصعدة.
في هذا السياق، ليس من المبالغة القول أن الحرب الحقيقية هي التي ستلي وقف اطلاق النار، وحتى يتمكن شعبنا ومعه شعوب ودول العالم المسانده لحقه في البقاء على أرضه وتقرير مصيره عليها، وفي انجاز عملية اعادة الإعمار ليس فقط بالمعني المباشر للكلمة بما يعنيه بناء المؤسسات والمرافق الصحية والتعليمية والبيوت وشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي والطرق وغيرها ، بل بالمعني السياسي الاجتماعي الاقتصادي، كي أولاً تستعيد غزة وتضحياتها مكانتها مجدداً كنموذج وطني للصمود، وليس مجرد “مندبةٍ” يتم فيها لوم الضحية، بل ولإهالة التراب على حالة الانقسام التي عانت منها الحركة الوطنية ونظامها السياسي المتآكل .
إن النجاح في مهمة اعادة اعمار القطاع يتطلب أولاً وقبل كل شئ التقدم بخطوات عاجلة لاعادة بناء النظام السياسي على أسس محددة تتكامل فيها مهام التحرر الوطني لدحر الاحتلال، مع متطلبات البناء الديمقراطي الكفيلة باستنهاض طاقات المجتمع في هذه العملية المعقدة التي فُرضت على شعبنا منذ تأسيس سلطته الوطنية قبل انهاء الاحتلال ونيل السيادة والاستقلال . إن تحقيق مثل هذه الرؤية المغيبة في العلاقات الوطنية منذ نشوء السلطة الوطنية، يتطلب استخلاص دروس فشل مسار التسوية، و ما رافقها من استقطابات واقصاء وتهميش في دور الحركة الوطنية، والصراع المدمر على “القرار الوطني والشرعية” من خلال سياسات التفرد والاقصاء أو وهم البدائل، والتي أدت إلى ما وصلنا اليه من انقسام، والاخطر من تهميش الحركة الجماهيرية، وما ولده من عزلة غير مسبوقة للحركة الوطنية و انكفائها حتى عن مبرر وجودها.
حركة حماس تدرك أنه على مدى القدرة الوطنية للنهوض بمهام اعادة الاعمار تتوقف امكانية تحويل الصمود العسكرى إلى انجازات سياسية، و أنه دون ذلك ربما يتم تفريع هذه الانجازات، و دفع الناس نحو الوقوع في براثن مخططات التهجير التي لن تسلم منها الضفة الغربية حيث جوهر المشروع الكولونيالي العنصري . والسؤال هل القيادة المتنفذة تدرك هذه المسألة، أم أنها ستستمر في سياسة التشفي بخصومها، و بتصفية الحسابات، بما في ذلك الامعان في المضي قدماً في استراتيجية استرضاء العدو، وما يقوم به من محاولات هندسة النظام السياسي الفلسطيني على حساب الحاجة للوحدة والتوافق والعودة لصندوق الاقتراع .
ربما من المبكر الخوض في مراجعة دروس هذه الحرب وتداعياتها الميدانية والسياسية، ولكن المؤكد أنه دون استنهاض القدرة الكلية لشعبنا في سياق مؤسسات وطنية جامعة، ستظل الحركة الوطنية في حالة اغتراب، وانعدام ثقة الناس بها . فبعد ثلاثين عاماً نعود لمربع ضرورة الحاجة إلى تشخيص علمي ودقيق لطبيعة المرحلة، و ما تستدعيه من متطلبات بلورة استراتيجية كفاحية للتحرر الوطني والبناء الديمقراطي، وفي كل الاحوال من خلال تعزيز قدرة المنظمة على التمثيل الشامل وقيادة النضال الوطني، و اعادة بناء مضمون دور السلطة ومؤسساتها في خدمة مهمات التحرر الوطني وما يتطلبه من تعزيز الصمود الشعبي والوطني، و استنهاض أوسع مشاركة شعبية لانهاء و دحر أطول وأبشع احتلال في التاريخ المعاصر . نحن أمام مفترق طرق يتطلب ارادة سياسية لمغادرة المصالح الأنانية والفئوية والمزاجية التي تتناقض مع المصالح الوطنية العليا لشعبنا، وتوحيد الكل الفلسطيني في اطار مؤسسات الوطنية الجامعة لاستكمال انجاز عملية التحرر الوطني والبناء الديمقراطي وفق أسس العدالة الاجتماعية والمشاركة الشعبية والسياسية والحكم الرشيد .