في السابع من تشرين أصيب الناس بحالة من هستيريا الفرح. حدث لا سابق له في تاريخ فلسطين منذ النكبة: قوة فلسطينية تتمكن من مواجهة عدوها دون مواربة، توقع به خسائر فادحة وتضعه في حالة تخبط تؤدي إلى قيام طائراته ودباباته بقتل مستوطنيه وجنوده في سياق حالة من الرعب أو الفوضى أو انعدام التوازن.
من البدهي أن ما حصل قد قوض أساطير القوة والأمن الإسرائيلي، وبدد صورة الجيش العظيم القادر على إخضاع أعداء أمريكا، وحماية عملائها من الأخطار التي تحدق بهم. الحارس غدا في حاجة إلى حراس وحراسة. وهكذا تقاطر الداعمون المكلومون من أرجاء العالم الأوروبي الجديد والقديم على السواء. كانوا جميعاً على قلب رجل واحد اسمه نتانياهو جاهزين لفعل ما يلزم وما لا يلزم لإعادة الاعتبار لحاملة الطائرات الأمريكية الثابتة التي تمكن أمريكا بحسب روبرت كنيدي من نهب هذه المنطقة إلى ما لا نهاية.
لا نوجه حديثنا هنا إلى الجمهور الأوروبي، وإنما لأبناء فلسطين وأمة العرب، ولذلك لن نجهد النفس في حشد الأدلة على أن المقاومة لا تريد تربيع الدائرة، ولا تحويل الماء إلى خمر، وأن جل ما تريده هو الحفاظ على ما تبقى من فلسطين (الضفة وغزة)، وأن إسرائيل هي التي رفضت ذلك دائماً لأنها تريد كل شيء. نتانياهو بعد زوال حزب "العمل" يجسد موقف إسرائيل واضحاً لا شية فيه: لا أرض للفلسطينيين، ليس لهم الا حكم ذاتي تحت ادارة اسرائيل التي تقتطع الأرض بشكل تدريجي يتواصل دون استرخاء جتى يحين زمن الترحيل التام.
لم تكن المقاومة في أية لحظة سبباً في ذلك التصور الإسرائيلي للصراع ومغزاه ومصيره. ظلت إسرائيل ردحاً من الزمن تفكر في طريقة لتصويب خطيئة دافيد بن غوريون الأصلية: الفشل في تطهير فلسطين، فلسطين كلها من البحر إلى النهر. وهكذا طرحت حرب 67 المشكلة الزائفة التي لا حل لها إلا بطرد شعب فلسطين. وقد بذلت منظمة التحرير الغالي والنفيس من التنازلات الجوهرية من أجل إقناع إسرائيل بأن تعود إلى زمن بن غوريون، لكن كل تنازل فلسطيني كان يستتبع مزيداً من التشدد الإسرائيلي. وما كان في ذلك شيء يستدعي الاستغراب أو الدهشة. لقد ولدت إسرائيل بوصفها كياناً استيطانياً إحلالياً تطهيرياً على شاكلة الراعية المخلصة الولايات المتحدة. وذلك يعني أن إزالة الفلسطينيين من المشهد كان "طبيعياً" مثلما أن افتراس الأسد للجاموس الأمريكي أو الإفريقي أمر تقره الطبيعة بعدالتها التي تنتسب إلى فكرة البقاء للأقوى والأصلح. وهكذا قام الأسد الأوروبي الأبيض على امتداد خمسة قرون بافتراس الأمم والشعوب في أرجاء المعمورة والاستيلاء على أرضهم دون تردد. وظلت المبادئ التي يروجها في إعلامه ومنظماته الأهلية الممولة من نخبه المالية أدوات لتخدير السكان المستعمرين حتى تحين لحظة افتراسهم وانتزاع أراضيهم من بين أيديهم لتتكرس المعادلة الشهيرة "أراضي بلا شعوب لشعوب كثيفة سكانياً" ولا مناص لتطورها من الاستيلاء على الأراضي الخالية من البشر أو التي يتم إخلاؤها من البشر، سيان.
كانت فلسطين على الأرجح آخر المشاريع التطهيرية البيضاء، وقد كانت فريسة سهلة بادئ الأمر حتى أن شاعر تلك البلاد الأشهر لخص الحكاية راثياً البلد بوصفه وطناً "فقدناه بحادث سير".
وعندما صحا الفلسطيني من سكرة حادث السير أو من سبات القرون الوسطى وجد نفسه لاجئاً يهيم في المنافي والشتات. ومن هناك أسس منظمة التحرير التي لن تسمنه ولن تغنيه من جوع. وقد انتهى الأمر بالمنظمة إلى الاقتناع بأن هزيمة إسرائيل غير ممكنة وأن خيار التسوية على أساس قرار مجلس الأمن 242 هو الممكن التاريخي المتاح للمحافظة على شيء من فلسطين. لكن حساب القرايا الفلسطيني لم يكن منسجماً مع حساب السرايا الإسرائيلي الذي كان يريد فلسطين كلها دون أدنى شك وقد ترتب على ذلك سلسلة من الألعاب البهلوانية الإسرائيلية دشنها الراحل شمعون بيرس تجسدت في مفاوضات واتفاقيات تدور حول القضايا الجوهرية دون أية نية لحلها لأن حلها الفعلي كان دائماً بالنسبة للإسرائيلي تطهير فلسطين على نحو كامل. وفي سياق الألعاب المنفذة إسرائيلياً كان هناك لعبة دولة غزة الموسعة لتشمل جزءاً من سيناء وتصبح التجسيد الأمثل لحلم الفلسطينيين بدولة كاملة السيادة على جزء من أرض فلسطين يمكنه أن يستوعب عدداً من اللاجئين بفضل الإضافة الكبيرة المقدمة له من سيناء والتي يمكن أن تصل إلى عشرة أضعاف حجم القطاع الفلسطيني الأصلي.
لكن غزة وإدارتها الحمساوية لم تتقبل المخطط الإسرائيلي لتطويرها لتصبح دولة مستقلة مع تخليها عن أية أوهام بخصوص الضفة الغربية التي تمثل أرض أنبياء إسرائيل وتحفل بوقائعهم الأسطورية التي لا عد لها ولا حصر. وهكذا دفعت غزة ثمن مواصلة الدفاع عن فلسطين كلها أو عن حدود 67 على الأقل، وكان ذلك دماراً تكرر على دفعات بدءاً بعام 2008 ثم 2012 ثم 2014 ثم 2021 وأخيراً طوفان الأقصى 2023 الذي شكل صرخة مدوية في وجه المشروع الصهيوني لابتلاع الضفة وتهجير سكانها.
شكل الهجوم الخاطف الفعال للمقاومة في السابع من تشرين ضربة للوهم الإسرائيلي بأن غزة يمكن أن تعيش وتترك الضفة لمصيرها، كما شكل كارثة لصورة الردع الإسرائيلي المعتادة التي تسمح لإسرائيل بتلقي الدعم والتحالف من أمريكا وأوروبا ودول المنطقة على السواء. وكان لا بد من استعادة ذلك الردع كما كان لا بد من التخلص من غزة نهائياً ما دامت لا تريد أن تؤدي الدور المرسوم لها في تصفية القضية الفلسطينية أو حصرها في غزة دون غيرها.
لكن إسرائيل ورعاتها أصيبوا بصدمة هائلة من قدرة المقاومة على القتال على الرغم من اختلال ميزان القوى فكان أن لجأت إسرائيل إلى إرهاب الدولة في أشد أشكاله صراحة وتوحشاً عن طريق قتل المدنيين عمداً في الأماكن المختلفة وتدمير سبل حياتهم الأساس من قبيل المنازل والمخابز والأسواق والمشافي ودور العبادة والمدارس والشوارع. كما تم إجبار معظم سكان الشمال والوسط على الهجرة إلى رفح عن طريق دمار واسع ومؤلم تم إلحاقه بهم علناً وعلى رؤوس الأشهاد. إن زمناً جديداً لا بد أن يولد يتم فيه التسليم لإرادة إسرائيل المطلقة ومن يعارض ذلك لا بد من إزالته من قاموس الأحياء.
فما هي السيناريوهات الواقعية لزمن ما بعد الحرب على غزة؟
1. نجاح إسرائيل في إلحاق هزيمة حاسمة بالمقاومة في غزة وهو ما يعني أن يتم إعادة توظيف غزة في المشروع الأصلي المتصل بإنشاء كيان فلسطيني مستقل بشكل أو بآخر يحمل عنوان الدولة الفلسطينية المحلومة التي يردد بايدن وغيره أنها يجب أن تكون الحل النهائي للصراع. في هذه الحالة يمكن أن يكون سيناريو نقل بعض الفلسطينيين إلى داخل سيناء قرب غزة مقدمة لهذا الحل باعتبار أن هؤلاء المنقولين المحتملين سوف يكونون فعلياً في دولتهم المستقبلية ولن يحتاجوا إلى العودة إلى أماكن سكنهم في شمال غزة ما دامت الأرض التي تستضيفهم ستكون جزءاً من الدولة الفلسطينية المقامة في غزة. وفي هذه الحالة يمكن استغلال الجزء الفارغ من شمال غزة لإيواء العائدين من مناطق مثل لبنان في سياق حل نهائي للقضية الفلسطينية يتضمن حق العودة إلى الدولة الفلسطينية في غزة. وفي هذه الحالة ستبدأ عملية تفريغ الضفة بالسبل المختلفة وإن يكن ذلك عملية تدريجية غير مستعجلة باعتبار أن حسم الصراع في غزة لن يبقي صعوبات جدية في وجه السيطرة على الضفة كلها وتكريسها جزءاً أساساً من أرض إسرائيل.
2. التوصل إلى حل وسط يتضمن تشكيل حكومة "معتدلة" تشرف على إعادة ترتيب الأوضاع في غزة والضفة تحت سيطرة إسرائيل وحلفائها الدوليين والعرب بما يعني بقاء مقاومة غزة مع تقليم أظفارها على نحو تام بحيث لا تستطيع شيئاً في المستقبل المنظور وبما يعني إعادة غزة إلى وضع المرشح للقيام بحامل الحلم/الوهم الفلسطيني مع الاحتفاظ بدرجة من الغموض التي تخدم قناعة المقاومة وجمهورها بأن هناك أملاً ما في المستقبل على الرغم من وجود ترتيبات صارمة تحظر على غزة أي تطوير للقدرات العسكرية وبما يجبرها على الانكفاء على هموم إعادة البناء والإغاثة التي قد تستغرق وقت الفلسطينيين هناك وجهدهم سنوات طويلة إن لم نقل عقوداً عديدة. وهذا يعني بداهة أن إسرائيل ستطلق يد الاستيطان والاستحواذ على الضفة تدريجياً بما لا يتناقض مع السيناريو السابق كثيراً.
3. انتصار المقاومة المتمثل في فشل إسرائيل في إخضاعها أو نزع سلاحها أو القضاء على جهازها العسكري تماماً. ويرافق ذلك توقف الحرب مع انسحاب إسرائيل من القطاع والسماح بدخول مواد البناء والإغاثة إليه وهو ما سيعني قلب الطاولة على إسرائيل وحلفائها وتقدم المقاومة إلى منزلة الممثل الحقيقي الوحيد للشعب الفلسطيني في كل مكان وهو ما سيجعل مشروع الهجوم على الضفة صعباً ومعقداً جداً لأن بقاء المقاومة حية سيعني إمكانية تصعيدها في أنحاء فلسطين والجوار العربي بما يفشل مشروع التطهير الصهيوني ويضطر الحركة الصهيونية إلى أخذ قرار القبول بدولة فلسطينية على حدود 67 أو غض الطرف عن إكمال خطوة التطهير إلى أجل غير مسمى بانتظار تحسن فرص ذلك في سياق تواصل الصراع مع الحركة الوطنية الفلسطينية.
مما سبق نستنتج أن صمود المقاومة وانتصارها وسط ظروف غير مواتية على الإطلاق هو الطريق الوحيد لإنقاذ فلسطين وشعبها من عملية إتمام التطهير الذي بدأ سنة 48 وما يزال نشطاً حتى الآن. ليس من السهل التنبؤ بالمستقبل خصوصاً أن أوروبا وأمريكا والعالم الاستعماري القديم كله أثبت أنه لم يغادر مواقعه الاستعمارية التقليدية أبداً بما في ذلك التقبل السلس للإبادة كما مورست ضد سكان المستعمرات في شمال أمريكا وأستراليا ونيورلندا وهو ما يعني أن غزة/فلسطين لا تستطيع أن تعتمد على رفض هؤلاء لحرب الإبادة وهو أثبتته الأشهر الأخيرة بدون شك. ومن ناحية أخرى يقوم العرب باستثناء اليمن بدور يترواح بين الفرجة والاصطفاف مع إسرائيل في وضع يضيق الخناق على غزة كثيراً وليس هناك للأسف موقف مختلف للسلطة الفلسطينية التي لا يمكن القول بأن بإمكانها أصلاً فعل الكثير حتى لو أرادت ذلك. يظل الدور اليمني ودور المقاومة اللبنانية على أهميته محدوداً من ناحية أثره في النتائج الكبرى للمواجهة ما لم تذهب المقاومة اللبنانية إلى حرب مفتوحة تلحق فيها هزيمة صريحة بإسرائيل تجبرها على التخلي عن مشاريعها التطهيرية والاتجاه إلى حل الدولتين "الوسط" وهو ما نستبعده بالنظر إلى ضعف الاحتمال بأن تحدث هذه المواجهة وكذلك ضعف احتمال انتصار المقاومة الحاسم في حال وقعت الحرب فعلاً.