قطاع غزة الذي يتعرض لحرب عدوانية شرسة يتم وصفها بأنها حرب إبادة لما يزيد عن 173 يوما يناهز عدد سكانه عن أكثر قليلا من مليوني ونصف المليون مواطن وتبلغ مساحته 365 كيلو متر مربع للتذكير فقط قبل السابع من أكتوبر كان يوصف بحسب تقارير رسمية للأمم المتحدة بأنه أكبر سجن في العالم بسبب الحصار الخانق لمدة 17 عاما وما خلفه من آثار كارثية على نواحي الحياة في الصحة، والتعليم، والزراعة، والبيئة، وهو ما أكدته إحدى تقارير الأمم المتحدة الأخرى أيضا بأن القطاع بعد سنوات قليلة "لن يعود مكانا صالحا للعيش" تلوث المياه، وشح مصادرها، وانعدام أبسط مقومات الحياة في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية تؤثر على البنى وأنماط العلاقات، والتفاصيل البسيطة والعادية للإنسان الآدمي سيجعل الحياة مستحيلة تحول اليوم وبات يعرف بأنه أكبر قبر في العالم.
بعيدا عن الانقسام ومأساة التشرذم الداخلي، والحديث عن الوضع السياسي والتركيبة الاجتماعية، والفوارق الشاسعة بين الضفة الغربية، وقطاع غزة التي تشير لأعلى معدلات الفقر والبطالة، وانخفاض مستوى غلاء المعيشة المرتبط بالقوة الشرائية للمواطن وفق السلم العالمي تتراجع بشكل كبير وخطير ويستدل منها أن كارثة محققة لمنطقة جغرافية كاملة ستحل، وحتى لم تعد مواصفات ومعايير المنظمات الإنسانية تنطبق عليها هذا ليس بسبب هزة أرضية أو بركان، أو إحدى الكوارث الطبيعية، وإنما بسبب الاحتلال نعم الاحتلال ذات السبب الذي ينفذ اليوم هذه المجازر ليس لذة بالقتل فقط واشباع نشوته السادية بالانتقام، وإنما من أجل تصفية الحلم أيضا ضمن محاولة إثبات التفوق، واسترداد قوة الردع ولا سبيل آخر بمنظوره إلا المزيد من الجثامين وسيل الدماء وتدمير المباني والمربعات السكنية، وأحزمة النار والأرض المحروقة لكل ما هو حي ويتحرك في غزة وهو جزء من مخطط شامل للانتقال تدريجيا وربما نحن في خضم ذلك للشروع بتنفيذه في الضفة الغربية والقدس مع تسارع الإغلاقات، والاستيطان، وقرار سمورتريش بناء ما يزيد عن 8 آلاف وحدة جديدة في الضفة مؤخرا، واستمرار عزل القدس، ومنع الوصول إليها مع تصاعد الإعدامات الميدانية، والاقتحامات وهي كلها تعكس المقدمات الفعلية لبدء توجه جديد يخص الأوضاع في الضفة ليس لتكريس الأمر الواقع كهدف تسعى إليه حكومة الاحتلال، وإنما ارتداد لما يجري في غزة تفوق نتائجه السياسية ما يجري من دمار ومجازر بكثير.
حرب الإبادة مع كل هذا الذي يجري أصبحت أقل بكثير من الصورة الحقيقية بل أصبحت مملا مكررا الجميع يردده تقريبا في أنحاء العالم لم يعد مصطلح يلائم ما يحصل وهو بحسب القانون الدولي يطابق الوصف الدقيق لكن استمرار العدوان دون توقف أو إرادة جدية لوقفه تجعل المصطلح خاو وخال فما يجري انتقل باعتقادي درجات أكثر وحشية وخطورة باتجاه محو الوجود الفلسطيني برمته اجتثاث وتغير كامل للحالة التي كانت سائدة قبل تشرين الماضي بكل التجليات العملياتية والسياسية وخلق واقع جديد أحدهم وصفه بأقل من نكبة وأكثر من إبادة إذا ما أردنا استمرار الغرق في فلسفة التوصيف التي تنسفها حقيقة الوضع على الأرض كل يوم ومنها ما يجري في مشفى الشفاء منذ أيام حيث يتعرض للقصف والاقتحام، ويتم إعدام الناس بمن فيهم الطواقم الطبية والنازحين بصورة بشعة وسقوط أخلاقي مدو، وتتداول أخبار عن حدوث حالات اغتصاب لنساء في المشفى ومحيطه هذه الأمور ليست في سياق ما جرى سابقا، وإنما هي مقدمات ترتبط بالتحضير لما سيجري في رفح وهي عنوان مهم ضمن مخطط أميركي إسرائيلي مشترك لتهجير السكان والنازحين من المناطق الأخرى في وسط وشمال القطاع المتواجدين في جنوب القطاع، وما مصير الناس إذا ما أقدمت دولة الاحتلال على تنفيذ مخطط الاجتياح للمدينة بين الموت تحت الركام أو في تيه التهجير والجوع !!
في واقع الأمر لو توقفت الحرب اليوم أو غدا لأي سبب فإن القطاع سيحتاج إلى عشرات السنوات، وعشرات المليارات للإعمار مناطق واسعة محيت من الوجود لن تعود كما كانت أبدا عائلات محيت هي الأخرى من السجل المدني الفقد والحرمان، والناس المكلومة لن تعود حياتها كالسابق مهما حصل في المقابل الواقع بعد شق الشوارع، وبناء الأبراج ووضع الثكنات يظهر النية الجدية لاستمرار التواجد الاحتلالي للمناطق الشمالية من قطاع غزة أضف الميناء العائم والإجراءات الأخرى بهدف خلق بيئة طاردة للناس حيث البقاء سيكون بمثابة موت محقق قتل الأمل هو الهدف الأساس، والترويج أو استمرار تسويق مقولة حق "الدفاع عن النفس" وجزء من المخطط ما له علاقة بمحاولة فرض قيادات محلية أو عشائرية لتولي زمام الأمور في القطاع بدواعي تأمين الاحتياجات الإنسانية حيث جوبهت هذه الاقتراحات برفض عنيد وواسع من الأهالي والعشائر في القطاع ووقفت موقف في غاية التماسك والصلابة.
اليوم المحطة الأهم التي يقف الشعب الفلسطيني أمامها هي تحدي إفشال مخطط ما بعد الإبادة وصولا للاجتثاث الفعلي وتفريغ الأرض تماما من أصحابها بين النهر والبحر تطبيقا لقانون القومية وتشريع نفي الآخر وحق تقرير المصير الحصري "بالشعب اليهودي" في أرض الميعاد تطبيقا للوعود التوراتية المزعومة والتي تقوم على أرض إسرائيل هي ملك للشعب اليهودي، وإيغال قوى التطرف الديني والقومي اليهودي في إسرائيل في التحريض على قتل الأطفال، وهدم المساجد، وترحيل من هو غير يهودي من هذه الأرض هو التطبيق العملي لتوجهات حكومية رسمية الإبادة هي انعكاس لفعل وقناعات تتماثل مع قانون النفي لكل ما هو قائم هنا عدا الإسرائيلي "الأغيار" اليوم هم تحت المقصلة وهو ما تحاول أوساط معينة حتى داخل إسرائيل نفسها من التحذير منه من الخطر الداهم على إسرائيل من نفسها رغم أنها أصوات قليلة غير وازنة فيما العالم الذي تتحرك شعوبه قاطبة اليوم لمناهضة حرب الإبادة وتسميها بذات الاسم (إبادة) عليها أن تدرك أن الموضوع لم يعد إبادة، وإنما هو أكثر من ذلك هو إبادة ومحو هوية، وضرب وجود وكيانية شعب آخر، والعالم الرسمي المتواطئ أو المتفرج أو حتى متلقي الأوامر من القوى النافذة والمهيمنة الجميع بطريقة أو أخرى شريك في جريمة تطهير غزة بالإبادة أو الترحيل أو زرع الموت تطهير غزة والضفة عرقيا هو بات اليوم قاب قوسين أو أدنى واليوم مطلوب وعلينا العمل بكل الإمكانات لمنع ذلك من خلال وقف العدوان وصيغة دولية لمنع إخلاء القطاع قسريا وعدم تكرار تراجيديا النكبة من جديد لكن هذه المرة امام الكاميرات والشاشات أما العالم المتفرج فعليه أن يملك الإرادة والجدية لإعادة النظر في دور الأمم المتحدة ومؤسساتها، ومنع تصفية شعب كامل وهو شاهد على جريمة القرن الحادي والعشرين وسط الصمت والخذلان وإغماض العين عن مشاهدة الحقيقة.