تواجه غزة ومقاومتها محاولات "كلبية" تتوسل عقيدة "الضاحية" لتحريض الجماهير في غزة وفي فلسطين كلها ضد المقاومة. ولا بد أن ذلك يحقق بعضاً من النتائج التي لا يمكن تجاهلها، لكن قبل أن نشرع في مناقشة ذلك يجدر بنا أن نوضح معنى الكلبية ومعنى عقيدة الضاحية.
يشير مصطلح الكلبية الفلسفي إلى النزعة إلى التشكك المتشائم في كل ما يجري سياسياً، وإلى وضع كل ما هو موجود في خانة واحدة من قبيل القول إن القيادات جميعها عميلة، أو أنها كلها تلهث وراء مصالحها، أو وراء الكرسي أو المال بطريقة مباشرة مثلما تفعل السلطة، أو بطريقة خبيثة ماكرة مثلما تفعل حماس.
هذا النوع من التفكير ناجم بداهة عن سنين طويلة من الإحباط تجعل الناس غير قادرين على تخيل وجود طليعة مقاومة حقيقية ونزيهة قادرة على مقارعة العدو وصولاً إلى دحره. وبسبب ذلك فإن الجمهور ينزع إلى الاعتقاد بأن ما يجري مجرد أضاليل وخدع تهدف في النهاية إلى تحقيق أجندات شخصية على حساب الدماء التي تسيل، والمدنيين الأبرياء الذين يتم التضحية بهم من أجل مطامع القيادات ورغباتها في السلطة أو القوة أو المال.
من ناحية أخرى يشير مصطلح عقيدة الضاحية إلى استراتيجية سياسية إسرائيلية تم تطويرها في العام 2006 وتتضمن أن إلحاق أذى مدمر ومرعب ومريع بالجمهور المدني المؤازر للمقاومة يؤدي إلى انفضاضه عنها وانقلابه عليها. وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى الضاحية الجنوبية في بيروت حاضنة المقاومة اللبنانية الأهم التي دفعت الثمن الأكبر من التضحيات في سياق مواجهة تموز 2006 دون أن تنقلب على المقاومة كما خطط الإسرائيليون عندما تبنوا هذه العقيدة.
نصت عقيدة الضاحية على اتباع التكتيكات التالية في قتال "المخربين" الفلسطينيين أو اللبنانيين: 1"سوف نستخدم قوة غير متناسبة ضد كل قرية تخرج منها الطلقات ضد إسرائيل، وسوف نتسبب في دمار كبير." (قائد منطقة الشمال غادي ايسنكوت)
2"الحرب التالية... سوف تقود إلى محو القوة العسكرية اللبنانية، وتدمير البنية التحتية في لبنان، وإلحاق المعاناة الكبيرة بالسكان. سيكون هناك تدمير جدي لجمهورية لبنان، وهدم للمنازل والبنية التحتية، ومعاناة تلحق بمئات الآلاف من الناس. ذلك هو القصاص الذي يمكن أن يؤثر في سلوك حزب الله أكثر من أي شيء آخر." (رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي غيورا آيلاند)
3"عندما تندلع المواجهات، ستحتاج إسرائيل إلى أن تتحرك بسرعة، وبشكل حاسم، وباستعمال القوة غير المتناسبة... ومثل هذا الرد يهدف إلى إيقاع الدمار الواسع والشامل إلى الحد الذي سيتطلب عملية طويلة ومكلفة من أجل إعادة البناء. (العقيد احتياط جبرييل سيبوني)
4. بالنسبة للفلسطينيين كان مئير شتريت واضحا بما يكفي:"عندما يطلق الفلسطينيون صاروخاً آخر، على جيش الدفاع الإسرائيلي أن يختار حياً في غزة ويسويه بالأرض."
لقد طبق الجيش الإسرائيلي هذه القواعد المعدة من أجل لبنان في غزة 2008 وبشكل أكبر 2014 لكن خلاصة النظرية في أوضح صورها ظهرت في المواجهة المستمرة والتي تلت طوفان الأقصى حيث هدمت إسرائيل أحياء لا عد لها وألحقت الأذى المهول بالأبرياء بمئات الآلاف إن لم يكن بالملايين قتلاً وإثخاناً في الجراح وتشريداً وصولاً إلى بند جديد لم يكن موجوداً في العقيدة الأصلية ألا وهو استخدام التجويع سلاحاً لتركيع الناس ودفعهم إلى الكفر بالمقاومة بل بفكرة فلسطين كلها.
من المدهش حقاً أن جزءاً مهماً من أهل غزة، وأن معظم أبناء فلسطين ما زال يصر على الصمود والمقاومة. بل إن الاستطلاعات تشير إلى ارتفاع شعبية المقاومة وفصائلها في الضفة والشتات على نحو لا سابق له وصولاً إلى تبني غالبية أبناء فلسطين فكرة المقاومة ومن يمثلها لينحسر على نحو حاسم أي تأييد لأنصار مشروع التسوية المستند إلى فعل ما تريده إسرائيل والولايات المتحدة على أمل أن "يحنوا" في يوم من الأيام ويمنحوهم دولة مستقلة أو شكلاً ما من دولة تشبه الدول.
لكن ذلك لا ينفي أن ملايين النشرات والتغريدات والمقابلات التي يشارك فيها الإعلام الجمعي والذباب الإلكتروني والتي تنشد جميعاً موقفاً كلبياً يستند إلى الانصياع لمقتضيات عقيدة الضاحية قد فعلت فعلها في جزء من الجمهور الساذج الذي يغيب عن باله أن خسارة القوة الاستعمارية تبدأ بالفعل عندما تقتنع جماهير الشعب الخاضع للاحتلال أن دحرها ممكن. لذلك تصر إسرائيل منذ 67 على الأقل على "إقناع" العرب بأنه لا قبل لهم بمحاربتها وأن عليهم الاستسلام أمامها دون قيد أو شرط لأنها أقوى عسكرياً واقتصادياً وعلمياً منهم جميعاً. بل إنها روجت في أزمنة تفوقها الساحق أنها قوة أخلاقية تحترم المبادئ والقوانين الإنسانية، وأنها تختلف عن الدول العربية التي تمارس الإرهاب والتعذيب بحق أبنائها المعارضين.
كان ضعف المقاومة الفلسطينية يوفر الفرصة لإسرائيل للتظاهر بأخلاقيتها وإنسانيتها. لم يكن هناك مقاومة "خطيرة" تتحدى السيطرة الإسرائيلية السهلة على الضفة وغزة ناهيك عن الداخل المحتل الذي ابتلع معظم الناس أنه أصبح جزءاً لا نقاش فيه من دولة الاحتلال المتفوقة. لكن تراجع الهيمنة الإسرائيلية وصورة القوة التي لا تهزم منذ العام 2000 غير قواعد إسرائيل المائلة إلى توظيف القوة الناعمة باتجاه تبني طرائق الاستعمار التقليدية المتوحشة وعلى رأسها استخدام القوة العسكرية الهائلة لترهيب المواطنين المدنيين وإخضاعهم وإجبارهم على التخلي عن المقاومة.
بالطبع لا بد أن يرافق البطش الاستعماري أبواق تردد أن المعاناة والألم سببها المقاومة التي جرت على الأبرياء ويلات الرد الاحتلالي بعد أن كان الناس يعيشون آمنين كما يزعم هذا التضليل الذي يتجاهل أن الاستعمار يسير بخطى متواصلة نحو نهب البلاد وأرضها حتى آخر حبة تراب بينما يعيش الناس كالخراف يجترون روتين حياتهم بانتظار أن يقوم المحتل في النهاية بطردهم جميعاً. يتم التغافل عن هذه الحقيقة الجوهرية والتركيز على أن فعل المقاومة ضد الاحتلال هو ما جر على الناس الدمار والقتل والتجويع. وهنا مغالطة واضحة ومباشرة تتجاهل أن إرهاب الناس إنما يهدف إلى منعهم من تبني عقيدة المقاومة التي تشكل خطراً على المحتل وإقناعهم أن الأفضل لهم أن يستسلموا لكي ينعموا بالحياة تحت الاحتلال إلى حين يقرر هو طردهم أو استبقاء جزء منهم عبيداً للقيام بالعمل الأسود الذي يأنف منه مواطنيه تماماً مثلما اضطر المستوطنون البيض في أمريكا إلى إحضار عبيد من إفريقيا بعد أن قتلوا السكان الأصليين جميعاً. وبمناسبة ذكر أمريكا نود أن نشير إلى أن إرهاب الدولة ليس اختراعاً إسرائيلياً مهما أبدعت إسرائيل في تطبيقه، وتوحشت في توظيفه. فقد استخدم هذا الأسلوب نفسه مع ألمانيا في حرب 1944 عندما قصف "الحلفاء" المدنيين الألمان وقتلوا حوالي 600 ألف منهم، كذلك فعلت أمريكا مع اليابان عندما قصفت مدينتين بالقنابل النووية سنة 1945. ومن الطريف أن نتانياهو وأركان حكومته لم يعودوا يجهدون أنفسهم في إنكار وحشيتهم، ويستعيضون عن ذلك بذكر أمثلة الإرهاب المستخدم ضد المانيا وغيرها لتسويغ جرائمهم في غزة.
لكن معاناة المدنيين التي تدمي القلب في غزة، لا تساوي انتصار إسرائيل، بل إنها تؤشر ناحية فشل إسرائيل العسكري النسبي في مواجهة المقاومة بعد ستة أشهر من الصراع الضاري وغير المتكافئ أساساً. ومن الناحية السياسية ستتحول تلك المعاناة إلى جزء آخر من هزيمة الاحتلال عندما تضع الحرب أزوارها، ويبدأ من يبدأ في قراءة الفشل الاسرائيلي العسكري من ناحية، وأيدي إسرائيل الملطخة بدماء الأطفال من ناحية أخرى. أما من ناحية جماهير شعبنا العربي والفلسطيني فإن عليها أن تدرك أن وحشية الاحتلال ضد المدنيين هي دليل على عجزه في مواجهة المقاومة الأسطورية في غزة، وأن الاتجاه "الكلبي" نحو التشكيك فيها أو تحميلها مسؤولية معاناة الجماهير هو ابتلاع ساذج لخطة الاحتلال وتحقيقاً لأهدافه ومبتغاه.