غزة- محاسن أُصرف
لم تعرف المرأة الفلسطينية، سبيلاً لليأس وانهيار الهمة، دائماً كانت على خط المواجهة، تختَلق أفكاراً إبداعية تُمكنها من تجاوز معاناتها، وتُسهم بها تسيير مركب أسرتها إذا ما فقدت رُبانها.
وأدت الظروف السياسية التي واجهها قطاع غزة خلال السنوات القليلة الماضية، بالمرأة الفلسطينية إلى تحمل أعباء الحياة ودفعتها أحياناً إلى امتهان حرف كانت في العرف المجتمعي مرفوضة أو حكراً على الرجال، فوجدنا المرأة التي امتهنت النجارة، وأخرى الصيد، وثالثة امتهنت طرق الحديد، ورابعة احترفت صيانة أجهزة الموبايل وافتتحت مشروعها الخاص متحدية نظرة المجتمع وتعقيداته غير المبررة لعمل المرأة.
"الحدث" اقتربت من بعض نساء غزة اللاتي وجدنَ أنفسهن في مواجهة ظروف العيش القاسية للنجاة بأسرهن من بوتقة الفقر التي فرضها الحصار وانعدام فرص العمل أو المرض أو الشهادة على أزواجهم.
في مواجهة البحر
على شاطئ البحر كانت أولى لقاءات مراسلة "الحدث" مع من اخترقن مهن الرجال باحتراف ومزيد من الصبر والجلد، إنها مادلين كلاب، ابنة الأعوام السبعة عشر، تُجيد ركوب البحر ومعاندة الموج لتصل إلى رزقها من السمك، تقول لنا بينما كانت عائدة من رحلة صيد استمرت ما يزيد عن 5 ساعات في عرض البحر: "لم أشأ ركوب البحر ترفاً، بل إجباراً لأوفر قوت إخوتي بعد أن أعجز المرض والدي عن الصيد".
وبدأت مادلين ترتاد البحر بغية الصيد في عمر الثالثة عشر، لكنها ما احترفت المهنة إلا بعد السادسة عشر حين أُجبر والدها على التقاعد نتيجة إصابته بنوع من الشلل منعه من ركوب البحر لأغراض الصيد، تقول لـ"الحدث" :"لم نملك مالاً ولا أرضاً لنعتاش فقط صيد السمك من البحر يأتينا بالرزق أو يسد جوعنا"، وتُضيف الفتاة الوحيدة التي تعمل وشقيقتها ريم في قطاع الصيد بغزة، أنها تُجاهد في عرض البحر من أجل تلبية احتياجات أسرتها اليومية، لافتة إلى أنها تتعاون مع شقيقتها وشقيقيهما الأصغر لرمي شباك الصيد خلال ساعات الليل في البحر وتستخرجها عند السابعة صباحاً فإما أن تكون عامرة بالصيد وإما يخونها الحظ فلا تجد إلا ما يسد رمق أسرتها، مؤكدة أن عدم الحصول على صيد وفير سببه المضايقات الإسرائيلية والمسافة المائية التي تُحددها إسرائيل للصيد والتي لا تتجاوز الأميال الثلاثة، تقول: "لا أُغامر في الدخول إلى العمق كون القارب بسيط وغير مزود بمحرك يُمكنها قيادته والهروب به إذا ما هاجمتهم الطرادات البحرية الإسرائيلية".
ورغم حصول مادلين على مال قليل من مهنتها إلا أنها تعشق تفاصيلها ولا تُفكر في التخلي عنها، فهي، حسب قولها، مصدر دخل عائلتها الوحيد، وبدونه لا يُمكن العيش خاصة في ظل تقليص المؤسسات الدولية للمعونات والمساعدات التي يخصون بها فقراء غزة.
النجارة الأولى بغزة
وبالاتجاه إلى المحافظة الوسطى وتحديداً في مخيم النصيرات، قابلنا آمال أبو رقيق، المعروفة بالسيدة الأولى التي اخترقت مهنة النجارة الذكورية، تقول: "العرف المجتمعي والعادات والتقاليد تحظر على المرأة ممارسة مهن الرجال، لكني بت مضطرة للعمل في النجارة وسأُتابع تطوير مهاراتي لأحظى بدخل أعلى يؤمن احتياجات أسرتي".
وتُعيل آمال طفلتها بعد أن انفصلت عن زوجها في الأراضي المحتلة عام 48 لعدم امتلاكها الهوية الإسرائيلية، كما تُساعد شقيقها في إعالة زوجته وأبنائها بحكم معيشتها في بيته، تقول متطلبات الحياة كثيرة ومن الصعوبة بمكان توفيرها دون عمل.
وبدأت النجارة أبو رقيق العمل في مهنة الرجال في العام 2003 حين وجدت نفسها وحيدة مع احتياجات طفلتها الصغيرة، تقول لـ"الحدث": "خُضت دورة تدريبية في فنون النجارة والصناعات الخشبية بمركز تمكين المرأة والمجتمع بوزارة الشئون الاجتماعية وتمكنت من تعلم فنون المهنة واتقانها"، وتُضيف أن صعوبة وقسوة ظروفها المعيشية كونها مطلقة دفعتها لاحتمال الكثير من الألم لتُمارس عملها بشكل طبيعي، مؤكدة أن الكثير من الناس كانوا ينظرون لها باستهزاء حين يجدونها تقف بين ألواح الخشب وتُدير بيديها ماكينات القص والحفر، لكنها لم تلتفت إليهم.
واستطاعت النجارة أبو رقيق، بالإصرار على ممارسة المهنة وتطوير مهاراتها تخطي كل العقبات، وما إن أعلن "مركز المؤسسات الصغيرة" عن تقديمه منحة مالية لدعم أفضل مشروع حرفي على مستوى الوطن في الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى تمكنت من المنافسة والفوز بالمرتبة السابعة ما مكنها من الاتجاه إلى تحقيق حلمها بافتتاح منجرة صغيرة تُصنع فيها ما تشاء، تؤكد أن طموحها لم ينته بل يزداد وهجه كلما تذوقت طعم النجاح، وقالت لنا: " أتمنى أن يُنافس إنتاجي الصُنّاع المَهرة في القطاع وأن أتمكن من توسيع أعمال ورشتي لتُنافس في السوق المحلي".
طرق الحديد
ولا تختلف عنها الأربعينية عائشة علي حسين، التي امتهنت مع زوجها طرق الحديد وتسويته على سطح معدني ساخن، ليُحوله فيما بعد زوجها إلى آلات حادة كـ السكاكين وغيرها، تقول السيدة وهي أم لـ سبعة أفراد: "أنها لجأت إلى مساندة زوجها في عمله من أجل أن يستمر في صناعته للأدوات الحادة ويُحافظ على مصدر رزقه الوحيد في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة بالقطاع وانعدام فرص العمل".
ورغم معاناة السيدة من آلام حادة في الغضروف إلا أنها لم تملك أن تُدر ظهرها لزوجها، تقول: "القليل من الألم أو الكثير يهون في سبيل توفير أدنى متطلبات الحياة لأطفالي بدلاً من التسول"، وناشدت السيدة كافة الهيئات المحلية الرسمية والأهلية بضرورة الإطلاع على حال السكان في القطاع وتقديم المساعدة لهم في ظل ما يُعانوه من بطالة وفقر وسياسة تجويع وإذلال من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وأضافت: "نعمل في المهن الشاقة لحماية أطفالنا من التشرد".
صيانة الجوالات.. اختراق أنثوي
لم تنته "الحدث" من الكشف عن اختراقات النساء الغزيات لمهن عُرفت بطابعها الذكوري، ليس في المجتمع الفلسطيني فحسب بل والمجتمعات العربية عموماً، فهذه فاطمة الحلولي من حي الشجاعية شرق مدينة غزة تفتتح رغم إعاقتها الجسدية محلاً لصيانة أجهزة الجوال، وتتحدى كل ظروف إغلاقه التي كان آخرها حرب العام الماضي حين أتى القصف على معظم أجزائه، تقول بعبارات الواثق لـ"الحدث": "تخرجت من الكلية الجامعية تخصص خدمة اجتماعية ولم أحظ بفرصة عمل واتجهت للحصول على دورات تدريبية في مجالات مختلفة كـ الدعم النفسي وغيرها".
نقطة التحول لدى الحلولي عند إعلان إحدى المؤسسات الأهلية بغزة عن تنفيذ دورة لصيانة الأجهزة الكهربائية والجوالات، فالتحقت دون تردد وكانت الفتاة الوحيدة بين عشرات الرجال، تقول: "كان من الصعب اختراق هذا العالم وتحدي النظرة السلبية للمجتمع للفتاة التي تعمل في مهن ذكورية، خاصة وأني أقطن في حي الشجاعية المعروف بأهله المحافظين المتشبثيت بالقواعد والعادات والأعراف المجتمعية"، وتتابع أن الصعوبة كانت أكبر داخل ورش التدريب إذ تعرضت لمضايقات كثيرة، مستدركة أن تشجيع الأهل والأصدقاء منحها القوة للاستمرار والمضي بخطوات ثابتة نحو افتتاح مشروعها الخاص لصيانة الجوالات.
تؤكد الحلولي أن ظروفها المعيشية الصعبة وإعاقتها التي تعرضت لها خلال الولادة وأفضت إلى بتر ساقها الأيسر قبل أن تُتم عمرها الأسبوع، جعلتها أكثر احتمالاً لكل المضايقات، تقول: "كان هدفي أسمى بتوفير مصدر دخل وتركيب طرف صناعي يُمكني من ممارسة الرياضة التي أحبها"، وبرز اسم الحلولي كعضو في اللجنة البارالمبية النسائية لذوي الاحتياجات الخاصة عام 2008 واستمر في البروز خلال العام 2011 حين شاركت في دورة الألعاب العربية وحصلت على المرتبة الخامسة، تؤمن الفتاة أن الإعاقة في الفكر وليس في الجسد ولذلك تستمر في طريقها الذي رسمته بنجاح، كما تقول.