تقرير- محمود الفطافطة
رغم مرور سنوات على الحديث عن ما يسمى بـ" المخدرات الإلكترونية أو الرقمية" إلا أن حسم هذه القضية من حيث ضرر هذه المخدرات أو عدمه لا يزال يأخذ جدلاً متنامياً وتناقضاً ملتبساً يحول دون بلورة موقف محدد إزاءها. وبما أن القضية المبحوثة ذات علاقة تخصصية وحساسة ارتأينا التطرق إلى جملة واسعة من آراء ومواقف العديد من الخبراء والمختصين الأجانب والعرب والفلسطينيين؛ بهدف تقريب الصورة وتوضيحها للقارئ والمواطن عموماً.
وقبل الخوض في ذكر بعض الآراء والمواقف حول هذه القضية، سنعطي لمحة موجزة عنها. المخدرات الرقمية هي ملفات صوتية تعمل على تذبذبات مختلفة لكل إذن؛ لذا تحتاج لسماعة "ستيريو"، وتؤدي إلى تغيير في كهربية الدماغ وتحفيزه في محاكاة للتغيرات التي تحدثها المخدرات الحقيقية. ليس هناك دليل علمي على أنها تسبب الإدمان أو أن لها ضرراً.انتشرت لدى الغرب قبل خمس سنوات، ومؤخراً سلط الإعلام العربي الضوء عليها.
حديث التناقضات!!
وحري بنا أن نبدأ موضوعنا برأي الأمم المتحدة في هذه القضية. ففي بيان صدر عن القسم الصحي التابع للأمم المتحدة أكد أنه: "لا يوجد ما يُسمى بالمخدرات الرقمية، مبيناً أنها فعلياً تسمى المؤثرات الصوتية، وأن ما ذكر من حالات إدمان وتسجيل وفيات، معلومات مغلوطة وغير علمية".
إلى ذلك، أكدت دراسة للمعهد القومي الأمريكي لمكافحة المخدرات عدم وجود أية بيانات علمية بشأن القضية. وفي دراسة قامت بها جامعة جنوب فلوريدا توصلت لنتيجة أن الظاهرة لا تؤدي إلى تغييرات كيميائية في الدماغ، في حين مكتب أوكلاهوما للمخدرات والعقاقير الخطرة يرى أن القلق الأكبر عندما يجربها الطفل وينتهي به الأمر لتدخين الماريغوانا مثلاً. كذلك، تقول الخبيرة الأمريكية بريجيت فورجو: "إن المخدرات الرقمية خطيرة، وأن الاستخدام المفرط للأصوات المحفزة يمكن أن يؤدى على المدى الطويل إلى اضطرابات في النوم أو القلق تماماً كاستخدام المنشطات التي تستعمل في بعض الحالات المرضية".
في المقابل، قالت طبيبة الأعصاب الدكتورة هيلين وهبى، في مقال لها بصحيفة الواشنطن بوست: "إن المخدرات الرقمية لا تشكل خطراً على الدماغ، وأن الأبحاث أفادت أنه لم يكن هناك أي زيادة على الإطلاق في نشاط موجات الدماغ لمن يستمعون إلى مثل هذه الملفات ذات الترددات المختلفة".
في دراسة أعدها مقدم دكتور أبو سريع أحمد عبد الرحمن من وزارة الداخلية المصرية بين فيها أن "المخدرات الرقمية ظاهرة منتشرة في الوطن العربي وتتم من خلال جلوس تاجر المخدرات أمام جهاز الحاسب الآلي الخاص به ليتلقى طلبات الشراء للمواد المخدرة عبر موقعه الإلكتروني، ومن ثم يقوم بعملية تحميل المخدرات الرقمية، والتي هي عبارة عن ملفات صوتية تحتوى على نغمات أحادية أو ثنائية يستمع إليها المتعاطي تجعل الدماغ يصل إلى حالة من التخدير تشابه تأثير المخدرات الحقيقية التي يريدها."
اقتصاد أم طفرة؟!
ويقول المقدم أبو سريع أحمد في دراسته " المستخدم الذي يرغب في شراء المادة المخدرة يقوم باختيار الجرعة الموسيقية ونوعها من بين عدة جرعات متاحة على الموقع يمثل كل منها نوعا من أنواع المخدرات التي يرغب فيها هذا المستخدم وسماعات أستريو"MP " ثم يقوم بتحميل ما تم اختياره وشراؤه من ملفات على مشغل أغاني 3 للأذنين والاسترخاء في غرفة بها ضوء خافت وتغطية العينين والتركيز على المقطوعة الموسيقية لمدة نصف ساعة للمخدرات أو 45 دقيقة لتشديد التأثير على المتعاطي".
وأشار الباحث إلى أن أحد المواقع الذي يبيع هذه المخدرات الرقمية يبيع أكثر من 1.4 مليون ملف شهريا، ويقوم الموقع بعملية إغراء مكشوفة إذ يمنح مستخدميه تجربة مجانية في البداية ويشجع المروجين لبيع ملفاته على شبكة الإنترنت لقاء عمولة تزيد على 20 %، ويتراوح سعر الملف الواحد بين 3 و9 دولارات، بينما يكون الملف الأول للمستخدم مجانياً، موضحاً أن الملفات أو (الجرعات) كما يسميها الموقع، تنقسم إلى تصنيفات مثل هلوسة، مخدرات روحية، سعادة، مضادات للقلق، مخدرات سريعة، مخدرات.
جاء في تحقيق أعدته لبنى بولحبال: "أن الملفات الصوتية التي تستهدف المراهقين على المواقع الإلكترونية تجعلنا نتساءل عن تأثير هذه المواد في صحة الفرد، بعد أن كشفت دراسة محلية حديثة أن المخدرات الرقمية باتت تمثل خطراً حقيقياً يصل بمتعاطيها إلى درجة الإدمان، كما أنها تجعل المخ يصل إلى حالة التخدر تشبه الحالة التي تقع تحت تأثير المخدرات الحقيقية".
من جانبه يقول د. هيثم رحمون: "أصبحت "المخدرات الرقمية" إلى حدٍ ما شائعة في بعض البلدان ويتم التعاطي بها عن طريق الإنترنت عبر ملفات صوتية يتم طلبها ثم تجربتها وفق شروط معينة، ويتم الترويج لها على أنها تساعد على الاسترخاء، وحالياً أصبح الترويج لأنواع منها، فمنها ما هو للاسترخاء وآخر للهلوسة وغيره للنشوة أو للمساعدة على حصول الرعشة".ويضيف: "حسب الدراسات فإن الذين يمارسون هذه العادات مثلهم مثل الذين لا تفارق أذانهم السماعات، وهم يستمعون إلى الموسيقى العالية باستمرار، ويجب أن نحذرهم أن هذا يؤدي إلى فقدان السمع إما تدريجياً أو بشكل مفاجئ، وهم لا يشعرون بأن هذه الأصوات هي ذبذبات صوتية كهرومغناطيسية"، مشيراً إلى أن للسماعات تأثيراً مضراً على القناة السمعية".
الدليل الضائع!
يقول استشاري الإدمان اللبناني د.جوزيف خوري: "لا يوجد دليل علمياً ولا ورقة بحثية واحدة ذات قيمة، تؤكد أن ما يعرف بـ المخدرات الرقمية تؤدي لأعراض الإدمان أو تسببه، أو تحدث ضرراً للشخص". أما خبيرة الأمم المتحدة في علاج الإدمان الدكتورة منى الصواف فتذكر: "أن ما يُثار عن "المخدرات الرقمية" مجرد وهم نفسي ومسمى خاطئ صنعه الخاسرون في شركات الموسيقى، وأنه ساهم في حرف الانتباه عن المشكلة الأساسية التي تواجه الإنسان في العصر الحديث وهو ازدياد المخدرات التقليدية." وترى أنه من الصعب الجزم في وفاة أية حالة تعرضت للإدمان بمثل هذه المخدرات.
من جانبها، قالت الدكتورة هبة العيسوي، أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس، إن المخدرات الرقمية ليست وليدة اليوم، بل ظهرت عام 1922 أثناء إجراء الفيزيائي الألماني "هنري دوف" تجارب موسيقية للحصول علي استجابات وتغيرات معينة في جسم الإنسان تعالجه من بعض الأمراض النفسية "التوتر والأرق"، وكانت تعرف بطريق النقر على الأذنين بترددات مختلفة، والتي عرفت فيما بعد بـ"المخدرات الرقمية ".
وأضافت: بدأ نوع من الاهتمام البحثي في قواميس الطب النفسي بهذا النوع من الموسيقي الذي تخلق نوعا من التعود للشخص الذي يتعرض لها، ومنذ سنتين انتشرت مواقع على الإنترنت لبيع أسطوانات مدمجة للموسيقي تثير أحاسيس معينة في المستمع، ومنها علي سبيل المثال، موسيقي لإثارة الرغبة الجنسية للمستمع، وأخرى لإثارة الرغبة في التأمل، وثالثة لتقوية الإرادة وهكذا، إلي أن وصلت إلي المخدرات الرقمية بسعر يتفاوت من 4 إلي 16 دولاراً. وأوضحت "العيسوي" أن المخدرات الرقمية لها طقوس معينة للشعور بنشوتها، تبدأ بارتداء المستمع ملابس فضفاضة مع الوجود في غرفة ذات إضاءة خافتة، ووضع سماعات "بيتس" أي عالية الجودة على الأذنين؛ لإعطاء تردد مختلف، وإزالة كافة الأسلاك الموصلة بالكهرباء سواء مروحة أو مدفأة".
بدوره يبين د. علي الحميدان أن أغلب من يلجأ إلى الموسيقى الرقمية هو المدمن المصاب بحالة من الهوس والشرود الذهني ويشعر أن المخدر الذي يتعاطاه لا يكفيه، لذلك يلجأ للصخب والموسيقى الماجنة ذات الصوت المرتفع حتى يطفئ حالة اللاوعي أو الفوضى العبثية داخله.
التوقيت والأعراض!
خبير الاستشارات النفسية د. إبراهيم الدبل يقول: "إن عرض ما يسمى "المخدرات الرقمية" في هذا التوقيت هو في الغالب أمر مقصود بعد الخسائر الفادحة التي تكبدتها مواقع تحميل النغمات والأغاني والموسيقى بصفة عامة فقام أصحاب هذه المواقع بإعادة ترتيب التسويق التجاري وعرض برامج دعائية منها ابتداع فكرة المخدرات الرقمية للدفع بالبعض لشراء هذه النغمات والترددات الصوتية والسمعية عبر ملفات عديدة ومتنوعة مثل MP3 وMP4 وذلك رغبةً بالكسب المادي.
وعن الأعراض الجسدية التي تصاحب إدمان المخدرات الرقمية، قال د. جمال فرويز، أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة إن تأثيرها يصل مباشرة إلى المخ، حيث تلغي "الإنتروفين" الحبوب المخدرة الطبيعية بالمخ، ويترتب على ذلك دخول المريض في موجات تشنجية، ونوبات صرع تسيطر علي جسده بالكامل، فضلاً عن التبول اللاإرادي، والصداع الشديد، مؤكداً أن الأعراض النفسية، تبدأ بقلة التركيز والانفصال عن الواقع، ومن ثم انخفاض الأداء في العمل والإخفاق في الدراسة.
وعن الأضرار النفسية، أشار د. كريم مكاوي، أستاذ الصحة العامة بجامعة القاهرة إلى أنه قد يعتقد البعض مما يعانوا من الاكتئاب أن الاستماع إلي هذه الملفات الموسيقية، سوف يساعدهم في العلاج، فهذه معلومة خاطئة، بل يظل الاكتئاب ويزداد؛ لأنه لم يتم معالجته بالطرق الطبية والعقاقير الصحيحة. وعن الأضرار الاجتماعية، أكد أنها تتمثل في انفصال الشاب عن كافة الأنشطة الإيجابية وانعزاله عن أدواره الاجتماعية، ومن ثم يقضي وقتاً طويلاً بعيداً عن متابعة دراسته أو عمله، وهو ما يترتب عليه أن يصبح تقدير الإنسان لذاته ضعيف جداً، حيث لم يعد مشتركا مع الآخرين في أي شيء.
الباحثة في القضايا الصحية والتنموية كفاح بني عودة تؤكد أن الثورة الإلكترونية والاتصالات هي أداة مخدرة فعلا، إذ أنها فصلت الشباب عن الحياة الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي من جهة، وساهمت في تسويق الأفكار والآراء السطحية من جهة أخرى. وتبين أنه في حال وجد ما يسمى بـ”المخدرات الرقمية” فإن مثل هذا النوع من المخدرات يؤدي إلى عزل الفرد نفسيا وفقد العلاقة الحميمة مع العائلة، وبالتالي التأثير السلبي على مستقبل الأسرة والمجتمع عموماً. أما صحياً فلها تأثيرات من حيث تبلد العقل لاعتماده الكلي على الأداء الإلكتروني، وأيضا الجلوس بكثرة أمام الحاسوب، وهذا ما يسبب له أمراض متعددة.
براءة فلسطين!!
تؤكد عفاف ربيع مسؤولة برنامج التوعية والوقاية في جمعية الصديق الطيب المتخصصة في معالجة ضحايا المخدرات في فلسطين أن ما يُطلق عليه "المخدرات الرقمية" لم نسمع عنها في فلسطين، ولم يتم الحديث حولها على الإطلاق من قبل المختصين أو الناس والشباب والأهالي، مضيفة: "أعمل في هذا المجال منذ عشرين سنة، وخضت بمعية زملائي دورات تدريبية متعددة في دول عربية عديدة فلم يسبق أن تحدث أحد عنها".
وتوضح ربيع: "الحديث حول هذا الموضوع انطلق بعد عرض تقرير على قناة لبنانية MTV مع أحد المسؤولين عن إحدى المؤسسات الأهلية في لبنان وقال فيه أنه حضر لمؤسستهم شاب يعاني من الإدمان على المخدرات الرقمية، وذكر أنه في السعودية توفيت حالتان وهذا ما نفته وزارة الصحة السعودية واللجنة الوطنية لمكافحة المخدرات في السعودية". وتذكر ربيع أن بعد عرض التقرير دار الحديث حول “المخدرات الرقمية” وتداولته وسائل التواصل الاجتماعي دون أي مرجعية علمية ومهنية.
وترى ربيع إن تعريف الإدمان لا يقتصر فقط على المواد المخدرة والمؤثرات العقلية " فهناك إدمان على موضوعات مختلفة مثل الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي وإدمان على التلفزيون وإدمان على القمار وغيرها، معترضة في الوقت ذاته على التسمية فتقول:" لا يمكن أن نسمي من وقع تحت تأثير سماعها لمرة ومرتين مدمن مع العلم أن العديد من الحالات التي جربت هذه الموسيقى وبعد سماع التقرير أكدوا جميعهم بأنها موسيقى مزعجة ولم تضعهم تحت تأثير التشنج كما ظهر في التقرير". وتنوه ربيع إلى: "أنه لا يمكن اعتبار هذه المخدرات الرقمية مخدرات ادمانية ولا نستطيع أن نجزم بأنه يوجد إدمان عليها وخاصة أن الأطباء النفسيين نفوا ذلك، ولا يوجد حالات في فلسطين سمعنا عنها أو في الداخل الفلسطيني وحتى في الوطن العربي".
وتعتقد ربيع أنه قد يكون من الأسباب وراء هذا التقرير وتداول مفهوم”المخدرات الرقمية” ضجة إعلامية لمؤسسة قد تبحث عن ترويج نفسها أو لعدم التمكن من تشخيص الحالة التي تحدثوا عنها، إضافة إلى أن بعض الشركات الموسيقية في حالة كساد؛ وبالتالي تهدف من وراء ذلك للربح المادي.
ما هو المطلوب؟!
يُقال: "الحذر والوقاية خير من العلاج، وكل شي إذا زاد عن حده انقلب ضده". من هنا نجد المتخصصين يطالبون أولاً بالتوقف عن الاستماع المستمر لهذا النوع من "المخدرات"، وهذا يعد العلاج الأساسي. ويرون أن علاج مثل هذه الحالات لا تتطلب دواء يؤثر في الجهاز العصبي، ولكنها تحتاج إلى العلاج السلوكي الذي يعتمد على السلوكات المرتبطة بالإدمان، وإلى العلاج النفسي الذي يعمل على تقوية الإرادة لدى المريض في اتخاذ قرار الإقلاع، وإلى العلاج الأسري الذي يعتمد على توجيه وإرشاد الأبوين في كيفية مراقبتهما لأولادهما، ومساعدتهم على تخطي عقبة الإدمان على الملفات الصوتية. وأشاروا إلى ضرورة عزل المريض عن أصدقاء السوء الذين أثروا فيه في بداية الأمر لأنه من المعلوم عن هذا النوع من الإدمان لا يتم تعاطيه فردياً، بل في وسط جماعة.
إذاً الحل يبدأ من الأسرة، ويجب علينا تكثيف التربية الأسرية وتعميق العلاقة بين الآباء والأبناء، وأن تقوم على الشراكة في كل شيء وليس مجرد صداقة، بل على الآباء أن يشاركوا أبنائهم هواياتهم ونشاطاتهم المختلفة، ينصتوا إليهم جيداً في مطالبهم ومشكلاتهم، وأن يتعلموا من أجلهم هذه التقنيات الحديثة في عالم الإنترنت؛ ليكون لديهم دراية بالمستجدات العالمية وما تبثه من سموم عبر المواقع لتدمير الشباب والمراهقين.