ربما كان من الصعب قبل عشرين عاماً من الآن، على سبيل المثال، تخيل ما يجري في منطقتنا هذه الأيَّام، فمن كان يتخيَّل ما ستفضي إليه أوضاع العراق وسوريا وليبيا واليمن، أو ما نتج عن الدَّوران في حلقةٍ مُفرغة فيما يتعلَّق بعمليَّة التسوية الخاصَّة بالقضية الفلسطينية، وكيف استطاعت إسرائيل تمييع وبعثرة وتجزأة كل القضايا الجوهرية في سياق ما سُميَّ بعملية السلام في الشرق الأوسط، في ظلِّ غيابٍ كامل للإرادات العربية أو حتَّى لأدنى مستويات الفعل الدُّبلوماسي العربي في مواجهة ذلك؟!
أتَذَكَّر ذلك المقال الذي كتبه الأستاذ محمد حسنين هيكل في بداية عام 2000م على متن الطَّائرة في طريق عودته من الولايات المتحدة الأمريكية، كما يذكر هو في حينه، وقُبَيْل تولِّي إدارة جورج دبليو بوش لمهامِّها رسميَّاً وكان بعنوان "التَّقرير الذي وُضِعَ على طاولة الرَّئيس الأمريكي- بعنوان إفْعَلْ ولا تَفْعَل " وقد تضمَّن التقرير جملة من التوصيات الأساسية المتصلة بالسياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً تجاه العراق وإيران وسوريا والسلطة الفلسطينية – بقيادة المرحوم ياسر عرفات – وتجاه مجريات عملية التسوية ومنحى استمرارها على قاعدة صيانة أمن ومصالح إسرائيل بالدَّرجة الأساسية، وقبل أيِّ شيء.
لقد كان ذلك التقرير، والذي ثبت صحة ما جاء فيه من توصيات على ضوء سلوك إدراة جورج بوش فيما بعد، بمثابة معالم طريق استراتيجية رسمت قواعد وآليَّات السلوك الأمريكي تجاه منطقة الشرق الأوسط.
كان من أبرز ما جاء في ذلك التقرير أنَّ التغيير في العراق- بمعنى إسقاط نظام الرئيس العراقي صدام حسين - لا يمكن أن يأتي من الدَّاخل، لذا لا بدَّ من التدخل الخارجي ولا بد من دخول العراق والسيطرة عليه من خلال الإحتلال المباشر – وهذا ما حصل فعلاً في غضون ثلاث سنوات من ذلك التاريخ – وقد تضمَّن التقرير كذلك أنَّه وعلى العكس من حالة العراق فإنَّ التغيير في إيران لا يمكن أنْ يأتي من الخارج – أي من خلال التدخل الخارجي بمهاجمة إيران – بل هو يأتي من الدَّاخل من خلال إثارة الإضطرابات والتناقضات بين المحافظين والإصلاحيين، ومن خلال إثارة المشاكل الإقتصادية لإيران عبر تشديد العقوبات وفرض مزيد من العزلة عليها – وهذا ما تمَّت محاولته فيما بعد بواسطة محاولة التدخل في أوضاع إيران الدَّاخليَّة، وفرض مزيداً من العقوبات عليها. وكذلك الأمر فيما يتعلَّق بسوريا، فقد تضمَّن التقرير أنَّه وفي حال نجحت تلك الخطط في العراق وإيران فلن يكون بمقدور النِّظام في سوريا الصُّمود في مواجة تلك التغييرات العميقة في البيئة الإستراتيجيَّة في المنطقة.
وفيما يتعلَّق بالسلطة الفلسطينية ورئيسها، فقد تضمَّن ذلك التقرير توصية بخفض مستوى العلاقة معها، وبعدم استضافة رئيسها – المرحوم ياسر عرفات – مجدداً في البيت الأبيض تحت كل الظروف، كما تضمَّن التقرير توصية بضرورة تقليص زيارات الرَّئيس الأمريكي إلى منطقة الشرق الأوسط إلى أدنى الحدود الدُّنيا.
وختم التقرير توصياته بضرورة الحفاظ على أمن إسرائيل وتفوُّقها المطلق، على كافَّة الصُّعد العسكرية والإقتصادية والجيوسياسيَّة.
ثمَّ طالعتنا بعد ذلك وزيرة الخارجية السَّابقة – كونداليسا رايس – بمفاهيمها الشهيرة حول الشرق الأوسط الجديد، والفوضى الخلَّاقة، وعلى هدي ما كتبه كل من هنتيغتون وفوكايام حول نظريات نهاية التاريخ، وعولمة الدُّنيا كلِّها من خلال أمرَكَتها، وفق نظرية النَّصر النهائي لمفاهيم النِّظام الليبرالي الرأسمالي.
إنَّ المتتبع لسياق الأحداث الكبرى التي جرت وتجري في المنطقة، يرى أنَّها أتت واستمرَّت وتستمر في مسارٍ منهجي متَّصل، وإنْ اعتراه بعض التباينات في سياقات بعض التفاصيل، ومن الفظيع الاستمرار في جهله أو تجاهله، ويحضرني هنا القول المأثور: فظيعٌ جهلُ ما يجري وأفظَعُ منه أن تدري!!