لم تعد مبادرة السلام العربية التي أقرتها القمة العربية في بيروت أثناء حصار الرئيس الراحل ياسر عرفات في المقاطعة ومنعه من مخاطبة القمة صالحة للاستعمال، فقد عفى عليها الزمن عندما أعلن بنيامين نتنياهو الذي يرأس اليوم أكثر حكومة يمينية تطرفا في تاريخ إسرائيل.
عرضت المبادرة العربية سلاما شاملا وتطبيعا عربيا كاملا مع إسرائيل مقابل اعترافها بدولة فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وحلا عادلا ومتفقا عليه لقضية اللاجئين.
تدور السياسة الإسرائيلية على محور أساسي واحد هو إقامة علاقات دبلوماسية وتجارية واقتصادية مع كل دولة عربية على حدة. وقد وصلت في هذا المجال إلى انجازات يتحدث عنها السياسيون الإسرائيليون ووسائل الإعلام الإسرائيلية ويفاخرون بها. وبمقدار لهفة إسرائيل للوصول إلى الثروة والأسواق العربية فإنها تتنكر للحق الطبيعي والقانوني والتاريخي للشعب الفلسطيني في إقامة دولة فلسطينية على أراضي عام 1967 المحتلة إلى جانب دولة إسرائيل.
لقد خبرت إسرائيل جيدا السياسات العربية والفلسطينية على حد سواء على مدى 67 عاما من نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948 وحتى اليوم، وخلصت سياستها إلى طلب المزيد من المبادرات العربية وانتقاء ما يناسب متطلباتها التوسعية والأمنية والاحتلالية، ورفض كل ما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني وبالتسوية العادلة.
في قرار التقسيم رقم 181 عام 1947 قبلت أن تقوم دولتها على 54% من أرض فلسطين وقوضت احتمالات قيام دولة فلسطين على 46% من الأرض الفلسطينية.
وفي القرار 194 عام 1948 قبلت الدعوة إلى وقف القتال بعد أن احتلت نصف الأرض المخصصة للدولة الفلسطينية ورفضت حق العودة للاجئين الفلسطينيين الراغبين في العيش بسلام في أرضهم التي باتت أرض دولة إسرائيل.
وفي القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي عام 1967، تكرست إسرائيل كدولة في حدود الرابع من حزيران بالطلب إليها بالانسحاب من المناطق التي استولت عليها في حرب 1967، وفي أكتوبر عام 1973 ونتيجة لحرب العاشر من رمضان قرر مجلس الأمن في قراره 338 الدعوة إلى التفاوض بين إسرائيل والدول العربية للتوصل إلى سلام. وتفاوضت مصر وعقدت نتيجة للحرب معاهدة سلام مع إسرائيل (كامب ديفيد) استعادت مصر بموجبها أرضها في سيناء منقوصة السيادة، ويتجلى ذلك اليوم في الحرب التي يخوضها الجيش المصري ضد قوى متعددة لا يمكن تحديد أهدافها سوى بإشغال مصر وإضعاف دورها المحوري في المنطقة. وهو ما كانت اتفاقية كامب ديفيد قد كرسته عام 1978 بإخراج مصر من الصراع العربي- الإسرائيلي وإسنادها للقضية الفلسطينية.
وما زال قرار فصل القوات بين سورية وإسرائيل في هضبة الجولان الذي عقد عام 1974 قائما حتى اليوم رغم تفكك سوريا وتناحر قواها وفصائلها ونظامها في حرب عبثية دمرت كل شيء بما فيه الدولة ذاتها.
وخلال هذه المحطات من تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي وفي جانبه الفلسطيني-الإسرائيلي تركزت الجهود على ضرورة قبول منظمة التحرير الفلسطينية التي انتزعت حق تمثيل الشعب الفلسطيني في قمة الرباط عام 1974 للتفاوض حول السلام مع إسرائيل في مؤتمر دولي مقابل التخلي عن كل أعمال العنف (الكفاح المسلح) داخل إسرائيل وخارجها. وجاء إعلان القاهرة نهاية عام 1985 ليكرس حصر العمليات العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها على الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن إسرائيل ليست جزءا من الأراضي العربية المحتلة. كل هذه المحطات جاءت لتدعيم فكرة "مسيرة السلام".
لكن التنازلات العربية والفلسطينية لم تغير السياسة الإسرائيلية تجاه الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 حتى اليوم. وهي تصر على الاحتفاظ بهذه الأرض كجزء من دولة إسرائيل وتصفية مواقع منظمة التحرير الفلسطينية وذراعها السياسي اليوم السلطة الوطنية.
إن إسرائيل تريد على لسان زعيمها بنيامين نتنياهو اليوم رفض المبادرة العربية كما في السابق، لتصبح الحالة، حالة تنازلات عربية مجانية ومفاوضات عربية-إسرائيلية مع كل دولة عربية على حدة، وإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية وسياحية مع هذه الدول، لا تلزمها بشيء تجاه القضية الفلسطينية فالسلام مع الفلسطينيين ليس في ذهن قادة إسرائيل لا السابقين ولا الحاليين، وربما اغتيل اسحق رابين لأنه سمح للفلسطينيين بإقامة سلطة الحكم الذاتي وعودة عشرات الآلاف من الفلسطينيين إلى الضفة الغربية وقطاع غزة.
ولا أدل على رفض إسرائيل حكومة وشعبا للسلام مع الفلسطينيين وحتى العرب من حكومة بنيامين نتنياهو الحالية التي تستمد سياستها من تهويمات توراتية تبرر الاستيلاء على الأرض الفلسطينية وبناء المستوطنات ورفض أي تسوية مع شعب فلسطين صاحب الأرض والتاريخ.
ولا ندري ماذا يتوقع نتنياهو من مبادرات جديدة من العرب بعد المبادرة العربية. غير أننا ندرك أن الوضع العربي رديء إلى درجة لا يمكنه الالتئام لطرح مبادرة عربية جديدة.