سلطان القيسي
لم تكن "فاطمة" تعرف وهي تغادر حلب، أنها ستصبحُ فيما بعد “زكية جورج” ، واحدة من رائدات الأغنية العراقية في الثلاثينات. تلك الفتاة التي جاءت مع شقيقتها لتعمل في أحد المقاهي، ثم لتعمل كراقصة في أحد ملاهي شارع المتنبي في بغداد، حيث كانت فائقة الجمال منحلة الخصر. لكن القدر شاء أن يكتشف الفنان العراقي صالح الكويتي صوتها الفاتن، ليهديها أجمل الألحان، التي جعلت منها مطربة العراق الأولى في ذلك العصر.
وصالح الكويتي أو صالح بن عزرة بن يعقوب واحد من أعمدة الفن العربي الأصيل، ولد لأسرة عراقية يهودية تعيش في الكويت، انتقل إلى بغداد مع أخيه داوود عام 1922 ليستقر هناك وينتج أهم الأعمال الفنية التي تعد الآن أمهات الأغاني العراقية، ليواصل إبداعه في الموسيقا فيضع الموسيقا التصويرية لأول فيلم سينمائي عراقي، حيث قال عنه نقاد كثيرون أنه واضع أسس الغناء العراقي، ورجع ذلك حسين إسماعيل الأعظمي في كتابه "المقام العراقي إلى أين" إلى استناد الكويتي على المخزون التراثي المقامي العريق، إلا أن الظروف الساسية خانت أعظم قصة حب بين صالح الكويتي وبغداد، حيث أدى الصراع العربي الإسرائيلي إلى صدور قرار إسقاط الجنسية عن يهود العراق، هذا القرار الذي لم يأتِ في مكانه أبداً، حيث أحدث شرخاً عميقاُ بين أبناء الطائفة اليهودية وغيرها من الطوائف في العراق، وألب اليهود العرب ضدَّ أبناء قوميتهم، فغادر صالح وداوود إلى فلسطين المحتلة، ليحملا "الجنسية الإسرائيلية"، وتنتهي بذلك حقبة موسيقية هامة على الصعيدين الشعبي والفني الرسمي.
زكية جورج التي امتلكت قلوب الكثيرين، ظلت تصدح بصوتها وجسدها اللين كعود بان، حتى سقط في فخاخ فتنتها الشاعر كمال نصرت، الذي كتب أحرَّ وأثمنَ قصائده تولّعا وتولّها بها، وكانت فرسه الجموح التي أمرضت روحه، وأوجعت عظام منامه، حيث استبدّ به الأمر لكي ينشر قصائده دون خجل أو وجل في الصحف معلناً أنها مهداة إليها، كما قدم لها قصائد جمّة لتؤديها، إلا أنه لم يحصل منها إلى على كلمات الشكر، دون أن يرفَّ لها في الحبّ قلبٌ أو رمشٌ. ثم لتطعن قلبه الهشَّ بقرارها المفاجئ بمغادرة العراق إلى حلب، عائدةً إلى مهنة الخياطة في حيّها الشعبي هناك. ليتابع شاعرنا موته على الأشهاد وعلى صفحات الجرائد اليومية دونما تردد، ويرقص كالمجنون على أغانيها التي تركته وحيداً ..الموسيقا تخون أحياناً !
إلا أن الله لا ينسى العشاق دائما، فقد ظهرت في حياة نصرت فاتنة أخرى ولدت في سوريا أيضاً، لأم يونانية وأب أرمني، إنها بلا شك شحرورة بغداد عفيفة إسكندر، التي راح يشدو لها أحسن الشعر متناسياً بذلك حرقته التي سافرت ببغداده إلى حلب.. الشعر جموحٌ أحياناً !
عفيفة إسكندر غادرت العراق أيضاً إلى مصر، لتعمل مع فرقة بديعة مصابني، ومن ثم مع فرقة تحية كاريوكا، وتحقق نجاحاً وقبولاُ منقطع النظير، ولعل أهم منجزاتها هناك كانت مشاركتها في فيلم "يوم سعيد" مع الفنانة فاتن حمامة والفنان الكبير محمد عبد الوهاب.. الموسيقا تَسرق الناس من بلادهم أحياناً !
مصر التي صارت وجهة معظم الفنانين، وخصوصا بعد أن جاء إليها كلٌ من الأخوين إبراهيم وبدر لاما، وهما منتجان فلسطينيان هاجرا إلى تشيلي، وعادا إلى القاهرة لينتجا أول فيلم سينمائي عربي، لتزدهر السينما بعد ذلك في حضن مصر الكبير، الذي صار خير ساحة للرقص والغناء والموسيقا والفن بأشكاله السبعة. مصر التي أنجبت عام 1892 عملاقين كبيرين أولهما سيد درويش وثانيهما محمد القصبجي الذي تتلمذ على يده محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ورياض السنباطي، والذي قدّم أهم الأعمال العربية أيضاً، منها "رق الحبيب- أم كلثوم" و " أنا قلبي دليلي- ليلى مراد " و " يا طيور- أسمهان" وكذلك الفصل الأول من "أوبرا عايدة"، وكان واحداً من أهم القوائم التي وقف عليها اسم أم كلثوم وصوتها، ولعل المنجزَ الأهم هو تأسيس الفرقة، وإدخال التشيلو والكونتر باص إلى الأغنية العربية. ظل مأخوذاً بأم كلثوم وما تفعل، مؤمناً بها إيماناً أعمى، أعطاها زهرة ألحانه، حتى صار اسمه "الموسيقي العاشق" إلا أن الموسيقا تخون، فيذكر الباحث الموسيقي التونسي د. محمد العلاني إن أم كلثوم بدأت تشعر بمنافسة قوية بينها وبين أسمهان فلم يرقها الأمر، حتى طلبت من القصبجي أن يقلع عن التلحين لأسمهان، إلا أن القصبجي رفض ذلك، فرفضت أم كلثوم بدورها أن تغني من ألحانه، وظل يهب ألحانه العاشقة لأسمهان حتى قُتلت عام 1944، فعاد القصبجي إلى أم كلثوم بلحن جديد، إلا أنها أصرّت على الرفض، كما كانت ترفض ألحان فريد الأطرش العملاقة، فما كان من القصبجي إلا أن رضخ واستسلم لجبروت صوت أم كلثوم وقلبها، واختار كرسيّاً متواضعاً ليجلس وراءها كعازف عود فقط، مخافةَ أن يخسرها إلى الأبد، تاركاً بذلك التأليف الموسيقي والتلحين، فيما لم تعبأ هي بذلك. من كان ليدرك حزن القصبجي وهو يعزف لحن غريمه لمعشوقته؟!
ظل الأمر كذلك حتى مات القصبجي متلفّعاً بحزنه، فحافظت أم كلثوم على كرسيّه فارغاً وراءها تقديرا لمنزلته التي لا يملؤها أحدٌ مهما طالت قامته.
الموسيقا التي يسمعها عاشقان في الليل فيطربان، ويتراقصان حبّاً وانتشاءً لم تأتِ إلا من رحم دمعة وحرقة عاشقين آخرين، ولو لم يحلّ كرب العشق بالناس لما انسرحت الأغاني من أعالي الجبال حتى أعمق الوديان، على وتيرة واحدة من الحرمان والقلق. كلنا من طين .. كلنا من حب وخيبات وموسيقا.