بقلم: إبراهيم رحمة
مائة عام عن المرض مرّت، سبعة وستون عاما عن النكبة، ثمانية وأربعون عن النكسة، وقبل المائة عام وبعد اليوم.. يظل السؤال فارِهَ القامة مُتوَثِّبا..
ولأن لغتنا نحن العرب لغة فاخرة بكل المقاييس حباها الله مبنى ومعنى ونحسن بها زخرف القول ونستوضع من خلالها أبهى المساحيق، وما هذا إلا ضرب من الهروب – هروب من الذات قبل أن يكون هروبا من بعضنا نحن العرب وقبل أن يكون هروبا من الآخر، هذا الآخر الذي يصر على إبقائنا تحت عتبة الصفر، كما هو هروب حتى من الزمن، من اللحظة أو اللحظات الفارقات التي تأتي علينا من حين إلى آخر وأقول "الفارقات" دلالة على العاقل لأنه من الجلي أن هذه اللحظات أصبحت هي بذاتها كائنا عاقلا حيًّا يرسم مآلنا من تلقائه.
ألهذا المستوى من الدونية والحضيض بلغنا في الوقت الذي نعطي لهذا الحضيض أسماءَ غيرِه، كي نجعل له صورة بهية غير مُنَفِّرة.
استقبلنا تسمية "الرجل المريض" منذ عقود واحتضناها كما يحتضن الطفل لعبته الجديدة، ولم نتساءل عمن ألقاها في بئر "لا وعْيِنا" العميق وما يجني منها، ومن بلاهتنا رُحنا نضيف إليها فصرنا نحن "المريض"، وبعدها كانت الهزيمة والتي هي بكل المقاييس هزيمة أخرى تضاف إلى سِجلّنا الحافل بالهزائم يوم ابتعدنا عن كلمة "اقرأ" أي بعبارة أخرى يوم ابتعدنا عن العقل والعقلانية واعتنقنا ديانة الخرافة والوصاية.
وقلنا عن هذه الهزيمة "نكبة" كل هذا حتى نكذب على بعضنا ونعطي تبريرا تلو التبرير.
ومرت بضعة عقود، وكانت هزيمة أخرى، غير أننا وكعادتنا أسميناها هذه المرة "نكسة"، يا ألله كم هي جميلة الكلمات وكم نحسن انتقاء الوصف.
وهكذا ومرة أخرى بردت تلك الإرادة فينا ورقصنا على وقع النتيجة مثل عجوز قبيحة الوجه لا تحسن حتى وضع المساحيق.
إلى اليوم وذلك الآخر يحرث ليس أرضنا فقط (غزة ليست عنا ببعيد) بل يحرثنا نحن صباح مساء، وما نزال نَقْلِب الحقيقة ونجعل من الهزيمة نصرا، وما نزال نُقَلِّب صفحات القواميس من المحيط – أقصد القاموس المحيط وليس محيطا آخر – إلى غيره عَلّنا نعثر على كلمة لم يسبقنا إليها سابق، ونسينا أو تناسينا بأن العبرة بالنتائج وليس بالكلمات.
خلاصة القول إننا كعرب، ما لم نصارح أنفسنا بالحقيقة الأخرى مهما تكن هذه الحقيقة وما لم ندع جانبا منهجية المساحيق والتواري خلفها، فإننا لن نغادر منطقة السكون التي نسكنها منذ قرون ولن نغادر منطقة ما تحت الصفر التي ظللنا نراوح فيها.
لِنَقُلْها بكل الصراحة إننا انهزمنا شر هزيمة أمام الآخر، وبالبنط العريض نكتبها مرات ومرات كعقوبة تلميذ فاشل فرضها عليه مُعلّمه، لِنَقُل إننا لا نملك من النهضة شيئا وإننا خارج سكة الحضارة ونتوقف عن الطّواف بما لنا من ماض نراه مجيدا ونتوقف عن التغني به والمباهاة، لِنَقُلْها بكل الصراحة إننا صفر على الشمال في مسيرة الإنسان الحديثة، عندها فقط يمكن أن نعي لحظة الوعي الفارقة، وندرك فظاعة ما نحن فيه.
أعزائي القراء، ونحن على مسافة أيام من هزيمة عام 1967م، تعالوا معي نُعلِن أننا انهزمنا كي نَضَعَ أوّل قدم لنا في طريق الانتصار.
*كاتب وأديب جزائري
مدينة بسكرة في 30 مايو 2015