بقلم: رشا عبدالله سلامة
قد لا يشعر القارئ بحجم «العزل» الذي تحدّث عنه الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله في تقديمه لرواية الكاتب سامح خضر الجديدة «يعدو بساق واحدة»، إلا حين يفرغ من صفحاتها، ليكتشف أنه عاش على مدار ساعات من القراءة في عالم ظن أنه انقضى منذ زمن طويل، أو كما يقول نصر الله «من ستينيات القرن الماضي»! الرواية، التي صدرت حديثا عن الدار الأهلية للنشر، والواقعة في مائتين وسبعين صفحة من القطع المتوسط، تتحدث عن الشاب قاسم، الذي عاد مع عائلته المكوّنة من أب عسكري فلسطيني وأم مصرية وشقيقة تكبره، إلى قطاع غزة، بموجب اتفاقية أوسلو، بعد أن أمضوا أعوامهم السابقة كلها في مصر.
هناك يبدأ قاسم بالتساؤل: عُدنا.. لكن ماذا بعد؟ هل هذه هي العودة التي كنا نمنّي أنفسنا بها: بلا أصدقاء أو معارف أو علاقات حقيقية، بلا تجارب أو ذكريات تتعلق بالمكان الجديد، بلا أماكن لتزجية الوقت؟ لم يتوقف أسى قاسم أو أسئلته عند الحدود الآنفة، بل تعدّاه ليطال صدمات من نوع آخر، كتلك التي اعترته حين اكتشف بأن مجتمعه الفلسطيني الجديد يحرّم الاختلاط في الجامعة، وبأنه يُحاكم الفرد على أسس لا يد له فيها كأصوله القروية أو البدوية أو كونه مقيم منذ الأزل في فلسطين أو عائد مع جموع العائدين أو كصاحب مكان أو لاجئ! قد يجد القارئ في مقاطع كثيرة خطاباً مباشراً، تخدمه اللغة المبسطة التي لم تجنح نحو التعقيد أو استعراض العضلات على القارئ، بيد أنه يتفهّم سياق الأمر تماماً: ثمة فلسطيني تثقل هذه الحكايات على صدره منذ العودة في أعقاب أوسلو حتى اللحظة، وبأنه يحتاج لروايتها كما هي من دون رتوش جمالية، وهو ما ذهب إليه نصر الله بقوله «رواية أولى، سيريّة إلى حد بعيد، فيها ما في طموحات كثير من الروايات الأولى وهواجسها: ترحيل كل تلك العذابات إلى الورق محاولة التخفف منها بأوضح الطرق وأقصرها».
يتحدث الراوي عن جوانب عدة، عن حياة اللاجئ الفلسطيني في ديار الغربة وكيف كان ما يزال طفلاً حين كان يتحتم عليه تقديم أوراقه للجهات المصرية سنوياً لانتزاع حق الإقامة في بلاد عربية شقيقة تحمل والدته جنسيتها، ويتحدث عن جدليات عيش الفلسطيني مرتاباً خائفاً يتقي شرّ الكلّ لأنه محض «غريب»، ومن ثم جدليات عودته لفلسطين، والتناقضات الاجتماعية التي لم تكن في حسبانه من قبل، وعن حياة الانعزال التي يحياها فيما هو على أرضه هذه المرة، ليقع فريسة لسؤال: أيهما كان الوطن وأيهما كان المنفى؟ المرأة حاضرة في رواية خضر كمسؤولة بشكل يفوق الرجال في مرات كثيرة، ومخففة من الوجع، بل كصمام أمان حين يعجز الرجال عن تذليل صعوبات الواقع أو تقبّلها، بدءاً من الأم التي تحمل على كتفيها عبء تأقلم أولادها في وطنها هي ومن ثم في وطنهم هم، مروراً بالحبيبة التي تبدو كما لو أنها نسمة وسط صحراء مقفرة حتى حين آثرت الرحيل، وليس انتهاءاً بابنة العم التي تغيّر مسار خطة بأكملها بالنسبة للبطل حين يتنازل عن حلم الهجرة ليبقى في رام الله هذه المرة ! بعيداً عن الجدليات التي تشغل قاسم سياسياً، فإنه يملك هواجساً شخصية تمنعه من القبول بسيناريوهات معلّبة. يقول «لم تكن حسابات قاسم معقدة كثيراً، فحسابات الربح والخسارة محسومة سلفاً مذ غادروا مصر، كان الأمر بالنسبة له هو مقارنة الخسائر بعضها ببعض وأيها أقل ضرراً من الآخر. فإذا ما بقي في غزة، سيفقد هذه الطاقة الوهاجة مع الوقت وسيندمج جزئياً في مجتمع سيملي عليه رغباته: أن يكون رجلاً، موظفاً، متزوجاً، متديناً، لديه أولاد ولا شيء أكثر.
باقي التفاصيل تغدو غير مهمة بعد ذلك، أما لو خرج، فبإمكانه أن يكون كل ذلك، أو كل شيء غير ذلك». في وقت كانت فيه الرؤية بعين البطل بريئة، هادئة وتارة أخرى غاضبة، بما يتناسب وعمره الغضّ، فإن أثر الأعوام التي تلت الحكاية ظَهَر واضحاً، حين كان قاسم يحلل نفسياً كثيراً من دوافع الشخصيات وكواليس المواقف التي كانت تظهر أمامه، ولعل ما خدمه في ذلك «الراوي العليم» الذي كتب روايته من خلاله، ما جعل التحرّك لديه حراً بين تصرفات الأبطال ودوافهم وما ورائيات المشهد.
-----------
من الرواية..
جميعنا ضحايا
اعتبر بعض الطلاب العائدين أن غربتهم كانت ثمناً كبيراً دفعوه كمواطنين فلسطينيين في دول الشتات، وما عودتهم إلا نتيجة صمودهم وعدم تخليهم عن هويتهم ورفضهم الانخراط اجتماعياً في أماكن تواجدهم ورفض المنفى لهم، كانت العودة نتيجة لصمود وتضحيات كبيرة دفعها الفلسطينيون في بيروت والأردن وسوريا ومصر وتونس، أما زملاؤهم المقيمين في قطاع غزة اعتبروا أنهم من دفع الثمن الأكبر بصمودهم وثباتهم
في الانتفاضة.
كان كل يظن أنه من دفع الثمن وحيداً، فالعائدون يظنون أن نصيبهم في المأساة كان الأكبر فلا شيء يذكر بجانب وقوفك كل سنة مثل الجرذ أمام ضابط الإقامات يستجوبك وأنت طفل قبل أن يمدد لك الإقامة، ولا بجانب استدعائك من قبل أجهزة الأمن في استجواب يبدأ بإذلالك ويستمر بإهانتك، قبل أن ينتهي بمنحك الإقامة منةً تمن بها عليك الدولة المضيفة.
لا شيء يقارن بموت ذويك الواحد تلو الآخر في الوطن وأنت لا تقدر على إلقاء نظرة الوداع، ولا عن تشييعهم تشييعاً يليق بعلاقتك بهم، نعم لقد كان يعيش هؤلاء في مجتمعات حرة ومتحررة لا يوجد بها احتلال، لكنهم عاشوا يشاهدون هذه الحرية عن بعد، حرية منقوصة ومشروطة وخاضعة لقوانين صارمة.
أما أبناء البلد فقد كانوا يعتقدون أن هذا الصمود لا يمكن مقارنته ولا بأي حال من الأحوال مع صمود من بقي في الميدان، يعتقل ويزج بالسجون ويقتل ويصاب ويدمر منزله، لا يمكن أن تقارن بين سياسة دولة عربية تجاه الفلسطينيين، وسياسة تكسير العظام التي اتبعها اسحاق رابين في الانتفاضة الأولى، ولا يمكن أن تضع أمر تجديد إقامتك في دولة بنفس منزلة هدم بيت على رؤوس أصحابه، لا يمكن أن تقارن حلمك بالعودة بكابوس العيش تحت الاحتلال وحظر التجوال، كان البعض يعتقد أن النضال الفلسطيني خارج فلسطين قد توقف بعد الخروج من بيروت.
هكذا هي الحياة، لا يمكن لضحية أن تشعر بألم ضحية أخرى إلا بعد أن يزول عنها الألم. ٍ
في فلسطين.. لا يمكن أن تكون بلا رأي أو غير مبال بما يحدث حولك، عليك أن تكون دائم الاستعداد لتدلي برأيك في أمر ما.
-------------------
إضطراب الهوية
من أنت؟
ابتسم قاسم قليلاً وقد بدأ يرتاح بعض الشيء في جلسته ثم اختار أن يلقي ببصره عبر النافذة ليتحرر من قيود المستمع، كان المنظر بديعاً حيث آخر ما تبقى من خيوط الشمس الراحلة تودع أشجار جباليا قبل أن تنسل مبتعدة.
أنا ضائع، لا أخفيك أني بت لا أعلم من أنا، منذ عدت إلى هنا وأنا لم أعد أنا، لا أعلم إن كنت مصرياً أم فلسطينياً.. لا أخفيك، كنت أفكر بفلسطين أكثر عندما كنت في مصر، الآن أنا أفكر بمصر أكثر... عائلتي صغيرة وبسيطة جداً، اختارت الانصياع إلى الواقع الجديد والتأقلم معه، أنا لايروقني هذا التأقلم وأحسه أحياناً خيانة للماضي،كنت أظنهم سيدينون بالولاء قليلاً لمصر التي احتضنتهم، الآن هم يذوبون في فلسطين وأنا أصبحت وحدي غير قادر على الانفكاك عن مصر، ولا عن أصدقائي، هنا أنا شبه ميت، لا أمارس ما اعتدت عليه، وعاجز عن الدراسة رغم أني كنت من المتفوقين دراسياً، وإذا ركزت على الدراسة لا أفهم شيئاً، تحصيلي العلمي يتراجع وأعتقد أنني بت غبياً، لا يوجد لي أصدقاء، لي أقارب ليس بينهم من يستطيع الصمود في حوار من دقيقتين، ليسوا سيئين، لكن لأنه لا يوجد بيننا قواسم مشتركة ولو بالحد الأدنى.. أبدو مثل الغريب، حتى في الجامعة التي من المفترض أن أعيش أفضل أيامي فيها، أقضي معظم وقتي أدافع عن نفسي، لست وحيداً في ذلك، كل من جاؤوا من الخارج يعانون نفس الأمر، متهمون أننا كنا لاجئين في بلادنا العربية، متهمون بالغياب، ولماذايتهم الفلسطيني فلسطيني آخركلما ضاقت بهم الدنيا؟ ألسنا جميعاً ضحايا؟ ألسنا جميعا نتحمل المسؤولية بشكل أو بآخر? ألن نواجه جميعنا نفس المصير؟