تستمر آلة الحرب الإسرائيلية في قتل المدنيين الفلسطينيين وارتكاب شتى أنواع الجرائم الوحشية، التي لم ينج منها لا البشر ولا الحجر في غزة. فقد قتل "الجيش" الإسرائيلي بلا رحمة 35 ألفاً من الفلسطينيين الأبرياء، أكثر من نصف عددهم من الأطفال، وتم تدمير 24 مستشفى شهدت إعدامات ميدانية لمرضى وجرحى وأطباء، وكذلك سحقت القنابل والجرافات الإسرائيلية مئات المدارس ودور العبادة.
أمام الجثث المتناثرة في كل أنحاء غزة قال مساعد الأمين العام السابق للأمم المتحدة لحقوق الإنسان أندرو غيلمور، "إن الفلسطينيين يعانون من عقاب جماعي وما نراه في غزة ربما يكون أعلى معدل قتل لأي جيش في العالم في التاريخ الحديث". كذلك، تظهر "هيومن رايتس ووتش" أن الجيش الإسرائيلي قام بتهجير الفلسطينيين من 20 تجمعاً سكانياً، ودمر بالكامل ما لا يقل عن 7 تجمعات منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وهذه حقائق دامغة.
مع ذلك، فإن هذه الحقائق، وفقاً لمذكرة مسربة، لا يمكن الحديث عنها في صحف الولايات المتحدة، مثل "نيويورك تايمز" التي طلبت من موظفيها تجنب مصطلحات "الإبادة الجماعية" و"التطهير العرقي" و"الأراضي المحتلة". وعلى المنوال نفسه تناغمت معظم وسائل الإعلام الأميركية، على مدى الأشهر الستة الماضية، مع آلة الحرب الإسرائيلية وغطت جرائمها وضربت بعرض الحائط بـ "مصداقية" الحد الأدنى والمهنية والإنسانية، حتى إيلون ماسك أسقط الفأس على العبارات التي تساند العدالة في فلسطين مثل مصطلحات، "إنهاء الاستعمار" و"من النهر إلى البحر" وقام بحظرها على منصة "إكس" التي يمتلكها.
الصمت في حرم الكلية
في "جامعة جنوب كاليفورنيا"، كان من المقرر أن تلقى "أسنا تبسم"، الطالبة الأميركية من أصول هندية، خطاباً في الحرم الجامعي أمام 65 ألف شخص بصفتها طالبة متفوقة في الفصل الدراسي للعام الجاري، لكن إدارة الجامعة ألغت خطابها، بعد اتهامها من قبل اللوبي الإسرائيلي بمناصرة المقاومة الفلسطينية، كونها ترفض "الإبادة الجماعية" التي تنفذها حكومة تل أبيب في غزة. وكانت إحدى المنظمات التي تعمل لصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي قد أصدرت بياناً تؤنب فيه إدارة الجامعة، كونها "منحت أعلى وسام للطالبة التي تروج علناً للخطاب المعادي للسامية".
وفي رد مدروس، ناشدت تبسم التي تخصصت في الهندسة الطبية الحيوية زملاء الدراسة في الجامعة، "للتفكير خارج الصندوق والعمل من أجل عالم لا يتم فيه التلاعب بصرخات المساواة والكرامة الإنسانية لتصير تعبيراً عن الكراهية والتعصب المرفوضين". يذكر أن الطالبة أسنا تبسم تبلغ من العمر 21 عاماً، أما عميد جامعة جنوب كاليفورنيا، أندرو غوزمان، الذي ألغى خطابها يبلغ من العمر 56 عاماً، وأسبابه لإلغاء الكلمة بدت أقل نضجاً من ندائها للحوار.
يجهد طلاب الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة لرفع مستوى الوعي حول ما ترتكبه "إسرائيل" في غزة. ويسعون إلى جعل جامعاتهم تسحب استثماراتها من الشركات التي لها أعمال في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومع أنه تم التسامح مع الاحتجاجات الطلابية المبكرة على المذابح الإسرائيلية في غزة، لكن بعد ذلك شارك كثر من أعضاء الكونغرس بإطلاق تعليقات متهورة حول الطلاب المحتجين وبأن الصين وروسيا من يمول نشاطاتهم. كذلك يقوم معظم عمداء الجامعات الأميركية، خوفاً من مانحيهم ومن الضغوط السياسية، بالرضوخ وفرض رقابة على الطلاب، ولم يتورعوا عن استدعاء الشرطة المحلية إلى حرمها الجامعي، وسمحوا لهم باعتقال الطلاب الذين منعوا عن دراستهم..
مع ذلك، المزاج الطلابي العام في أميركا إلى جانب الفلسطينيين بلا مواربة ولا يمكن إنكاره. ولقد صوتت الاتحادات الطلابية في جميع أنحاء الولايات المتحدة لإجبار إداراتها على سحب استثماراتها من دولة الاحتلال الإسرائيلي.
ما هو بغيض؟
منذ نحو أسبوعين أغلقت السلطات في العاصمة الألمانية برلين، مؤتمراً فلسطينياً جمع أشخاصاً من جميع أنحاء ألمانيا ومن بلدان أخرى من أوروبا وفلسطين. كذلك، احتجزت الشرطة الألمانية الطبيب البريطاني الفلسطيني غسان أبو ستة في المطار ومنعته من دخول البلاد، كي لا يشارك المتحدثين في المؤتمر المذكور أهوال ما رآه خلال تطوعه للعمل في مستشفيات غزة حيث شهد حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية بشكل مباشر. وكان من المقرر أن يلقي وزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس خطاباً عبر الإنترنت في المؤتمر المذكور، ولم يتم منعه من إلقاء هذا الخطاب فحسب، بل تم إصدار قرار بحظره من أي نشاط سياسي بشكل مباشر أو عبر شبكة الإنترنت أو الدخول إلى ألمانيا. وعلق فاروفاكيس على القرار: "هذا الأساس ناقوس الموت لآفاق الديمقراطية في جمهورية ألمانيا الاتحادية".
قبل أيام قليلة من المؤتمر في برلين، نشرت البروفيسورة جودي دين مقالاً على مدونة "فيرسو" بعنوان "فلسطين تتحدث باسم الجميع"، واعتبرت أن المضطهدين لهم الحق في النضال من أجل تحررهم، وهذا متجذر ببساطة غير قابلة للاعتراض وهو أساس الإعلان الدولي لحقوق الإنسان.
في اليوم التالي لإغلاق مؤتمر فلسطين في برلين، نشر رب عمل جودي دين، رئيس كليات "هوبارت و "ويليام سميث "في الولايات المتحدة، مارك غيران، بياناً أعلن فيه أن الأستاذة دين لا يمكنها تدريس بقية فصولها، وكتب غيران أنه لم يكن فقط في "خلاف تام" مع دين، ولكنه وجد أيضاً تعليقاتها "بغيضة".
ومن المثير للاهتمام أنه منذ شهر تشرين الأول/أكتوبر الفائت، لم يصدر غيران سوى بيان علني يدين حركة "حماس"، ولم يلحظ أي شيء عن عنف الإبادة الجماعية المروع ضد الفلسطينيين.
ماذا كتبت جودي دين التي كانت "بغيضة"؟ ركز غيران على كلمة "مبهجة"، التي استخدمتها دين لوصف رد فعلها على الطيران الشراعي الذي تجاوز سياج الاحتلال الإسرائيلي حول غزة. لم تحتفل في الواقع بهجمات "طوفان الأقصى"، ولكنها استخدمت فقط الطائرات الشراعية كاستعارة للنظر في سياسة الأمل والتحرر من وجهة نظر فلسطينية، مستشهدة بالقصيدة الأخيرة لرفعت العرعير، الذي قتلته "إسرائيل" في 6 كانون الأول/ديسمبر 2023، وتأمله في الطائرات وفكرة التحليق فوق القمع والاحتلال.
تريد السلطات وإدارة الجامعات والكليات، تكميم نداء الطالبة أسنا تبسم من أجل الحوار والتعلم، وبسبب خوفها الشديد من الحديث فعلياً عن فلسطين، يفضل أشخاص مثل غيران التعصب الأعمى بجانب المجرم وضد الضحية.