محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ
سيظنُّ القارئ، انطلاقا من العنوان، أنني سأتحدَّثُ عن كتاب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي حمل العنوانَ نفسَه:"Les Mots et les Choses". لكني سأحوم حول رواية "سدهارتا" لهرمان هسه. أقول أحوم، لأني لا أكتبُ هنا عن هذا العمل الأدبي الكبير جماليا أو فنِّيًا، بل أستضيء بفكرته لأناقش انعكاساتها على الثقافة والحياة. تبدأ الرواية من قلق سدهارتا وروحه التوَّاقة إلى الجواهر ومعرفة الحقيقة، فيقرر مغادرة قريته وعائلته لينضمّ إلى السمانيين، ويتبعه في هذه الرحلة صديقه العزيز غوفيندا. لكنَّه سرعانَ ما يقرر الرحيل عنهم لإدراكه أنّ الجوهر بعيد عن رؤيتهم، وكذلك يفعل صديقه. إلى أنْ يلتقيا معا بالبوذا غوتاما، وفي هذا اللقاء المهمّ والكبير يحصل الفراق بين الصديقيْن؛ غوفيندا يختار أنْ يكون من أتباع غوتاما، لكنَّ سدهارتا يواصل طريقه وحيدا.
لقد انطلق كلاهما من الكلمات، أيْ من التعاليم. لكنَّهما افترقا أيضا بسبب الكلماتِ، وبسبب التعاليم التي سرعان ما ركنَ إليها غوفيندا وارتاح فصار تابعا مخلصا للبوذا غوتاما، وقلق منها سدهارتا فاختار غيرها، سلك طريق الأشياء. الأوَّل كانَ ظلاً لشجرة كبيرة مورقة خضراء، أما سدهارتا أراد الشجرة، وإذ لمْ يجد سبيلا إليها في التّعاليم السائدة اتَّجه صوب الأشياء، انغمسَ في السانسرا، في عالم النّاس، جرّب الملذات جميعا بعد أنْ كان مجرّبًا لكل أنواع الزهد، ثم انتهى به الأمر عند نهرٍ استلهم من التعاطي المباشر معه كثيرا من الحكمة حتى ذاع صيته، بسبب العابرين، بين الناس.
ما يهمُّ الآن من هذه الرواية هو أنّ الكلمة والشيء هما طريقان مختلفان ومتناقضان في فهم الحياة. لأنَّ متّبع الكلمات، سيتعاطى مع العالم بالتعدِّي؛ أي بواسطة الوصف. أمَّا سالك طرق الشيء فسيجد نفسه في مواجهة حادَّة، ومن غير واسطة، مع العالم. ومع أنه لا برهان على أنّ سالك أحد الطريقيْن سيفهم أفضل من غيره، من نقيض طريقه، لكنَّ غوفيندا، وكل إنسان مثله، سيعيش على خطواتٍ ابتكرها غيرُه، وكل دوره مهما عظُم هو أنْ يضع رجله بعناية ودقّة على أثر رجل السابقين، وبهذا تكون الكلماتُ بابا مفتوحا على التقليد، وربّما، على إفراغ الكائن من الاكتشاف والمغامرة. الكلماتُ، بهذا الطَّرح، هي نوعٌ من السلفيَّة. أمَّا سدهارتا فكل خطواته مبتكرة، لأنه لا يتّبع بل يبدع، ولا يقتفي بل يمحو ليكتب ثمّ يمحو، لأنه اختار الأشياءَ، والأشياء، بهذا الطرح، هي نوعٌ من العداء للاتباعية والسلفية الفكرية أو الحياتية.
حين ننظرُ اليوم إلى جميع الشخصيات الفكرية التاريخية أو المعاصرة، سنجد أنفسنا أمام نوعيْن متناقضين؛ النوع الذي تعبّر عنه شخصية غوفيندا؛ ولْندْرجْ فيه مثلا أبا العتاهية وابن تيمية قديما، وكلّ العقول الاتّباعية في عالمنا المعاصر. والنوع الثاني، وهو الذي تعبّر عنه شخصية سدهارتا، ولْندْرجْ فيه مثلا أبا نواس وابن عربي والحلاج قديما، وأيضا كل العقول المبدعة في عالمنا اليوم. لكنْ لابدَّ من إشارة صغيرة، وهي أنَّ الواقع عامرٌ بالأنموذج الأوّل؛ أنموذج الاتّباع والتقليد، بينما يظلّ الأنموذج الثاني، سدهارتا، نادرا جدا، والأدهى من هذا، يظلُّ منفيًّا خارج دائرة الاتباعيين من حراس معابد الكلماتِ غير القادرين على استيعابِ خطواتِ بشر تسير لا على هدي بوصلتهم.
في نهاية الرواية سيجتمع الصديقان مجددا؛ سدهارتا وغوفيندا، وستتحاور من خلالهما الكلماتُ والأشياء، وكعادة الاتباع سيطلب غوفيندا من صديقه أنْ يعلّمه من حكمته التي حصَّلها، لكنّ سدهارتا يجيبه بطريقة عجيبة جدا، لأنه لا يعرف كيف يصنع الأتباع، بل ربما لا يريد. وسأتركك يا صديقي القارئ مع رده عليه. قال سدهارتا:"يمكن الإفضاء بالعلم، لكن ليس بالحكمة. يمكن للمرء أن يجد الحكمة، أنْ يعيشها، أن يكون محمولا بها، أن يجترح بها الخوارق، لكن لا يمكن له أن يقولها ويعلّمها. هذا ما كنتُ أستشفّه أحيانا وأنا شاب، وما دفعني إلى الابتعاد عن المعلمين."(سدهارتا، هرمان هسة، ترجمة:جيزلا فالور حجّار).